بخطوات شبه ميتة ومنهكة مضت، كأن صمتها يصرخ: ايها السعداء رفقا.. اخفضوا ضجيج ضحكاتكم كي لاتوقظوا الحنين داخلي، مندفعة نحو ضفاف النهر وكأنها ذاهبة نحو المنحر، عصفت الرياح بوجه النهر بقسوة لتتوغل داخله..
امواج فائرة لتتمدد الى كتل الهواء المتغيرة ثم تجزر الرحيل عائدة ليتمزق بطن النهر اشلاء متلاطمة، تحدث صوتا صارخا كأنه يرفض احتضان تلك التائهة المتجهة نحو القاع، تصلبت يداها وردائها الطويل بدأ يقبل ضفاف النهر قبلة الوداع .
سيوف هوائية تشق الوجوه ليرتفع صوت صراخ الطفلة التي وضعتها بمقربة من النهر قبل الذهاب لأحضانه ثم التفتت نحوها بنظرة كللتها بأبتسامة منهكة ثم تشق ابتسامتها انهار من الدموع، لوهلة ظننتها امواج المياه لولا احمرار وجهها الذي كان يصرخ: كفى دموعا فقد احترقت من لهيب دموعك ثم عادت ملتفتة نحو احضان النهر لتفتح يديها كنورس يود الرحيل وتوارت في سر عصارات المياه المندفعة لتدوي بصرخة الوداع دون كلمات..
صوتها المنادي ارتطم بكل من هناك ولامس الوجدان لتهرع خطوات الرجال نحو النهر منجدة اياها وتتسربل خطوات النساء نحو الرضيعة التي اعتلى فيها صوت الفراق مطالبة بأمها.
بعد برهة من الوقت خرجت الاقدام من النهر منسحبة نحو المقدمة يطأطئون الرؤوس وخلفهم ذاك الرجل الضخم حاملا اياها ويداها متدلية كأنها لعبة مهترئة ليجلس بركبتيه على الارض واضعا اياها وكأنها مطالبة بالنعش ثم ينبعث صوت الرجل خلال الانفاس المتقطعة المنتظرة منه ان يقول انها على قيد الحياة مترددا: (لقد فارقت الحياة)..
لتعتلي الايادي على الشفاه وتصرخ الطفلة صرخة تمزق القلوب، صرخة الفراق وكأنها استمعت لحديثهم، ثم ايقنت ان ليست هناك عودة لأمها لتقبل نحوها فتاة حسناء يظهر عليها الترف تربت عليها بلطف مواسية فتسقط من بين لفائف الطفلة ورقة بيضاء مطوية بشكل مرتب ومعها ظرف، فتحت الظرف امام الجميع، فيه بعض النقود ثم تلته لتفتح الورقة فتجد فيها حروف سقطت عليها بإعتناء وخط جميل لكنه حزين..
الارجاء طالبت من حولها قراءة الرسالة لتتلو عليهم المحتوى: (عزيزتي بنيتي انا امك، ان فتحت هذه الرسالة فهذا يعني انني اصبحت بين طيات السماء، كنت اجذف عبثا في حقول جرداء، اعتذر لكوني اُم اتعبتها رائحة الارض ولم تعد تطيق كل من عليها سواك.. اعتذر لكوني لن استطيع اكمال رسالتي معك ولن استطيع ان اكمل ماتبقى لي من الحياة بجانبك، لتعلمي فقط قلبي ماعاد كالسابق والاحلام التي كنت اسردها ليلا مع والدك في شأن مستقبلك لم تعد على وجه الحياة، ذات يوم ذهبت معه دون ارادة والدي ظنا مني انني اعرف بمصلحتي وهم يكرهونني ولايودون ان اعيش مع من اُحـب، تركتهم يعتريهم الوجوم مني لأرصد ملذاتي في عتمة الليل والتحق بقافلة قلبي الهائم في بحور العشق في حين ان عيناي مغمضتان عن الحقيقة.. ثم ابصرت الواقع المؤلم معه ولم استطع العودة ادراجي لأنه لن يستقبلني احدهم وربما انحر حين العودة ثم تلى الألم صفعات متتالية وبعدها تركني وحدي فهو يعلم انه لاسند لي حتى ان قتلت ليس هناك مطالب بدمي. لاعذر لي على تركك لكن جل امنياتي ان من سيجد الرسالة والظرف سيحملك معه لأنه علم ان ليس هناك شخص يبحث عنك. الوداع ياابنتي في حفظ الله. اتمنى من قارئ الرسالة وحامل ابنتي ان يعطيها اياها حين تكبر ربما لن تسامحني على خذلانها لكن اتمنى ان يعتريها الحنين لي وتدعو لي بالغفران، الوداع..
بعد مرور عشرين عاما اقبلت تلك المنقبة نحو النهر ذاته، اشعلت شمعة الحنين وبيديها رسالة الام، وضعت الشمعة بقلب الرسالة بعد ان طوتها بشكل تجرفه المياه نحو المجهول ورفعت يديها نحو السماء لتتلو الدعاء.. لعل الله يغفر لأمها فقد قتلت نفسها البريئة ..
ثم تلتها عودة نحو المقبرة لتفتح كتاب الله وترتل بعض آيات الذكر الحكيم لترقد روح والدتها بسلام..
ان هذه الصورة تمثّل الوجه الاخر لايّ علاقة بُنيت على غير ما اراده الله ان تكون، لتكون بدايتها عقوق الوالدين دون النظر للجوانب التي تم رفض الوالدين لهكذا علاقة التي اتضحت نهايتها وادت بها نحو التهلكة.
يقول عز من قائل: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً) (الإسراء:23).
ومن ثم جرفتها نحو قتل نفسها التي حرم الله قتلها..
(وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29) وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرًا) (30) سورة النساء.
فهنا قول المولى عزوجل في مُحكم آيات ذكره الحكيم، ما يعني أن اليأس والقنوط من اشتمال الله للإنسان بالرحمة، من الأفعال التي تجعله قد سقط في فخ الكفر بقوله في سورة يوسف “لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون”(٨٧)، كما جعلها صفة من صفات الواقعين في خطيئة الضلال أيضاً.
اضافةتعليق
التعليقات