"فتنافسوا في زيارته" جاء هذا النص الشريف عن الإمام الصادق (عليه السلام).
ونحن نعيش أجواء زيارة الأربعين، يشعر من يعيش قربها بأنها أجواء منفردة في الوجود، لا يتحملها عقل، ولا توجد قدرة بشرية ولا خزائن دولة يمكن أن تنفق بهذه الطريقة. إذًا، كيف نفهم هذه المعجزات التي تتكرّر سنويًا بفارق كبير جدًّا؟
ويأتي السؤال: من يتحمّل كل هذه النفقات المالية والإدارية؟
فعندما يكون هناك مرسوم ملكي أو برنامج سياسي، أو حتى مؤتمر لمجموعة من الشخصيات والوفود، لا بدّ من تهيئة الظروف، والأموال، والتجهيزات.
فكيف بماراثون يجمع العالم من مختلف الجنسيات، ولغات، وألوان، وحتى أعراق، لكنها توحدت بشعار: يا حسين.
فكانت قلوبهم تدفعهم قبل أقدامهم، وأنفسهم قبل أموالهم، وبيوتهم قبل أوطانهم.
حتى صار الطريق الوحيد الذي لا تُحسّ فيه بالتعب أو الغربة، رغم امتداده وطول مسافته، التي قد تصل إلى أيام وليالٍ، ولا تحتاج فيه إلى بوصلة أو إشارات ترشدك إلى الهدف، فكل الطرق تؤدي إلى كربلاء، والمشي إلى سيد الشهداء (عليه السلام) هو المبتغى والمُنى.
يبذل المؤمنون في طريق الحسين (عليه السلام) الغالي والنفيس لأجل راحة الزائرين، حتى يشعر الزائر الكريم كأنه في فنادق عالية الجودة (سبعة نجوم):
وسائل الراحة والخدمة من طعام بأصناف مختلفة، وحتى أدوات الاتصالات والإنترنت متوفرة، وكلها مجانية، ومن أجل الحسين (عليه السلام).
وليست الخدمة فقط للجانب الجسدي، بل هناك زاد فكري أيضًا، ومخيمات ثقافية، ومحاضرات توعوية دينية واجتماعية. ولا شكّ أن الاهتمام بالمؤمنين وراحتهم فعلٌ راجح دينيًا وأخلاقيًا، وله عظيم الأجر.
لكن هناك جانبًا لا بد من رعايته في خصوص طريق الحسين (عليه السلام)، ومنها مراعاة حرمة المكان المقدس وآداب الزيارة.
وقد رُوي عنه (عليه السلام) رواية أكثر إيلامًا، أنقلها كما نقلها الحر العاملي (رحمه الله) عن المفضل بن عمر، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال:
"تزورون خيرٌ من أن لا تزوروا، ولا تزورون خيرٌ من أن تزوروا!"
قال: قلتُ: قطعتَ ظهري!
قال: "تالله! إنّ أحدكم ليذهب إلى قبر أبيه كئيبًا حزينًا، وتأتونه أنتم بالسفر؟! كلا! حتى تأتونه شعثًا غبرًا."
وفي حديث مع خادم في موكب سفينة النجاة، أوقفني كلامه وهو يقدّم وجبات الطعام للزائرين، إذ قال:
"لا حرمنا الله خدمة الحسين، ولا حرمتُ من زيارته."
شيبة مباركة، تقوّس ظهره، وترتجف يداه، لكنه يقف بعزيمة الشباب في الصف الأول، يحمل الأطباق على رأسه، ويصرخ:
"لا حرمنا خدمته!"
كلمات تحتاج إلى قاموس من الشرح لكل مفردة...
لماذا الخوف من فقدان هذه النعمة؟
ولماذا الرجاء والدعاء بأن يبقى خادمًا للحسين (عليه السلام)؟
الخوف من الحرمان من زيارة الإمام الحسين (عليه السلام)، والرجاء بالتوفيق لهذه الزيارة.
حتى الإنسان الذي توفرت له كل الظروف الطبيعية المؤيّدة، لا يستطيع أن يجزم بأنه سيزور أو يخدم، فيبقى في حالة من الرجاء والخوف والدعاء.
وكذلك الإنسان الذي لم تتوفر له أي ظروف، قد يُحرَم من زيارته أو خدمته.
إذن، هي مسألة التوفيق الإلهي، أن يشمله الله بالذهاب إلى كربلاء حتى آخر لحظات الأربعين، وخدمة سيد الشهداء (عليه السلام).
ويختارهم الإمام الحسين (عليه السلام) ليزوروه، بالرغم من كلّ الظروف، أو ليعملوا في موكب أو حسينية.
وفي حديث آخر أجاب الشيبة المباركة:
"وفي كلّ محطة من محطات الموكب خدمتك، لا أشعر بالوحدة، لأنني أشعر بأطراف يديك المبتورة وهي تغلّف قلبي وتدفعني نحو الأفضل. ومن سأحتاج، يا حسين، ما دمتَ معي؟ لا شيء غير:
إلهي، لا تحرمني من خدمة الإمام الحسين (عليه السلام).
اضافةتعليق
التعليقات