وَالْجُرْحُ لَمّا يَنْدَمِلْ، وَالرِّسُولُ لَمّا يُقْبَرْ.
ورد في خطبة السيدة الزهراء (عليها السلام) هذا المقطع، وهو جزء من خطبتها المعروفة بـ الخطبة الفدكية، التي ألقتها بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وسلم في مسجد النبي بالمدينة، حين طالبت بحقها من القوم، وأشارت إلى عدة نقاط؛ منها تذكيرهم بمنزلة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ومكانته، وما فعله من أجل الأمة وإنقاذها من الضلال المبين والكفر، كما تطرقت إلى انقلاب الأمة على أهل بيته (عليهم السلام) ومخالفة الوصية الشرعية.
احتجّت على القوم بتلك الكلمات، وقد اخترت هذا المقطع لما فيه من البلاغة في التوبيخ والاحتجاج.
وإليك تفسيره وشرحه المفصل:
1. والجرح لما يندمل
أي إن جرح فقد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يلتئم بعد، فما زال الألم في القلوب، والوجع في الأرواح، والحزن لم يخف بعد.
فأيُّ فقدٍ بعد محمد (صلى الله عليه وآله) وسلم يُذكر؟
والمقصود هنا: كيف بادرتم بأفعالكم ومؤامرتكم على الخلافة واغتصاب فدك، والانقلاب على العهد، والجرح لا يزال مفتوحاً، والدموع تجري، ولم يزل الحزن على الرسول جديداً؟
2. والرسول لما يُقبر
أي إن النبي لم يُدفن بعد، أو لم تكتمل مراسيم دفنه حين تنازعتم في أمر الخلافة!
وهذه إشارة إلى سوءِ الفعل وتوبيخ شديد:
كيف تركتم جسده الشريف لم يُوارَ التراب، وذهبتم تتقاسمون وتحكمون، واشتغلتم بتدبير الحكم والسلطة، وأبي لم يمضِ على وفاته إلا ساعات قليلة؟
3. ابتداراً زعمتم خوف الفتنة
إشارة إلى أنكم سارعتم وانقضضتم على الأمر (الخلافة) بادّعاء أنكم خفتم وقوع الفتنة بين المسلمين إن تأخرتم.
لكن الزهراء (عليها السلام) تفضح زيف هذا الادعاء، وتردّ على فعلتهم، وتقول إنكم لم تفعلوا ذلك خوفاً من الفتنة، بل طمعاً في الدنيا والسلطة، واستدلت على ذلك بآية قرآنية.
4. { أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ}
(سورة التوبة، الآية 49).
أي أنكم زعمتم أنكم تتجنبون الفتنة، ولكنكم سقطتم فيها بالفعل؛ لأن الفتنة الحقيقية هي مخالفة أمر الله ورسوله، واغتصاب حق أهل البيت عليهم السلام، وترك وصية أبي.
فأنتم وقعتم في الفتنة التي خفتم منها، بل كنتم أنتم سببها.
5. فهيهات منكم، وكيف بكم، وأنّى تُؤفكون؟
"هيهات" كلمة تدل على البعد والاستبعاد، أي بعيد جداً عنكم أن تكونوا على الحق.
فكيف تُصرفون عن الحق إلى الباطل؟ وكيف انقلبت فطرتكم حتى تنكروا وصية رسول الله وتبدّلوا عهده؟
ألم يقل النبي: «فاطمة بضعة مني»؟ فماذا فعلتم بهذه البضعة؟
أولم يُوصِ بعلي؟ فماذا فعلتم بعلي؟
إن السيدة الزهراء (عليها السلام) في هذا المقطع تعاتب القوم الذين انقلبوا على وصية النبي بعد وفاته مباشرة، وتوبّخهم لأنهم تركوا جنازته الشريفة وانشغلوا باختيار خليفة بطريقةٍ مخالفةٍ لما أمر به.
وقد ادعوا أنهم فعلوا ذلك خشية الفتنة، ولكنها تؤكد أن هذا الادعاء باطل، لأنهم بهذا التصرف كانوا سبب الفتنة الكبرى التي فرّقت الأمة، وأنهم ابتعدوا عن الحق وضلّوا عن طريق الهدى.
وهذا ردٌّ صريح لمن يقول إن السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) لم تدافع عن حقها وحق الإمام علي (عليه السلام)، إذ إن هذا المقطع وحده يدل على إدراكها العميق لما جرى من مكر القوم بعد رحيل أبيها (صلى الله عليه وآله وسلم)، وعلى شدّة مصابها بما أصاب الأمة من انحراف.








اضافةتعليق
التعليقات