لا يظهر الاستهلاك في المجتمع الحديث بوصفه استجابة طبيعية للحاجة، بل بوصفه أحد الأطر التي يُعاد من خلالها تعريف السعادة ومعنى الحياة الجيدة. فالحضارة المعاصرة، وهي تنتج سلعها بلا انقطاع، تنتج في الوقت ذاته تصورات عن الرضا والاكتمال، وتربط بين الامتلاك والشعور بالقيمة، حتى يغدو الاستهلاك جزءًا من البناء النفسي للفرد، لا مجرد نشاط عابر.
تقوم ثقافة الاستهلاك على وعد دائم بالسعادة، وعد لا يُقدَّم بصورة مباشرة، بل يتسلل عبر الصور والرموز والخطاب اليومي، ليصبح حقيقة غير مُعلنة. فالسلعة لا تُعرض باعتبارها ما هي عليه، بل باعتبارها ما يُفترض أن تمنحه: شعورًا بالأمان، أو الإحساس بالانتماء، أو تأكيدًا للذات. وبهذا المعنى، لا يُستهلك الشيء لذاته، بل لما يرمز إليه، ولما يُتوقَّع أن يعوّضه من نقص داخلي.
غير أن هذا الوعد، على كثافة تكراره، يظل ناقص التحقيق. فالسعادة التي يولّدها الامتلاك سعادة مؤقتة، سرعان ما تتلاشى، تاركةً وراءها رغبة جديدة، أكثر إلحاحًا وأقل إشباعًا. وهكذا لا يتحقق الاكتمال، بل يُؤجَّل باستمرار، وتتحول السعادة إلى حالة انتظار دائمة، لا إلى تجربة مستقرة.
إن الاستهلاك لا يعمل بوصفه نهاية للرغبة، بل بوصفه آلية لإدامتها. فكل إشباع يحمل في داخله بذرة رغبة أخرى، وكل اقتناء يفتح المجال لمقارنة جديدة. وبهذا تدخل الذات في حركة لا تهدأ، حيث لا يكون السؤال عمّا يحتاجه الإنسان، بل عمّا ينقصه دائمًا.
وفي ظل هذا المنطق، تتغير معايير النجاح دون أن يُلتفت إلى ذلك بوعي نقدي. فالنجاح يُقاس بما يمكن عرضه ورؤيته، لا بما يمكن إدراكه أو الإحساس به. وتفقد القيم غير القابلة للتسليع وزنها، لأنها لا تدخل بسهولة في لغة السوق، ولا تُترجم إلى مكاسب ملموسة. وهكذا تُهمَّش معاني الرضا، والقناعة، والسكينة، لصالح حركة دائمة من السعي والطلب.
كما يعيد الاستهلاك تشكيل علاقة الفرد بذاته. فالهوية لم تعد نتاجًا لتجربة داخلية أو مسار طويل من التكوّن، بل أصبحت انعكاسًا لما يختاره الفرد من سلع وعلامات. ومع كل اختيار جديد، تتبدل ملامح هذه الهوية، دون أن تستقر على صورة نهائية. ويترتب على ذلك شعور مستمر بعدم الاكتمال، لأن الهوية، مثل السلعة، قابلة دائمًا للتحديث والاستبدال.
ولا يُقدَّم هذا الوضع بوصفه إشكالًا، بل يُروَّج له باعتباره علامة على الحرية والتقدم. غير أن الحرية التي تقوم على تعدد الخيارات لا تعني بالضرورة تحرر الإنسان من القلق، بل قد تعمّقه، حين يتحول الاختيار ذاته إلى عبء، وحين يصبح الفرد مسؤولًا عن شعور دائم بالفشل في بلوغ الرضا.
إن المشكلة لا تكمن في الاستهلاك ذاته، بل في الموقع الذي احتله داخل الحياة الحديثة. فعندما يصبح الامتلاك وسيلة لتعريف الذات، والسعادة غاية تُطارد عبر الأشياء، يفقد الإنسان قدرته على التمييز بين ما يحتاجه فعليًا، وما يُدفع إلى الرغبة فيه. وحينها لا يعود الاستهلاك أداة في خدمة الحياة، بل تصبح الحياة ذاتها خاضعة لمنطقه.
إن السعادة لا يمكن أن تُبنى على مبدأ التراكم، ولا أن تُختزل في الامتلاك. فالسعادة تتطلب وعيًا بالحدود، لا تجاوزها الدائم، وتتطلب علاقة متزنة مع الأشياء، لا خضوعًا لها. ومن هنا تأتي ضرورة مساءلة ثقافة الاستهلاك، لا بوصفها ظاهرة اقتصادية فحسب، بل بوصفها رؤية شاملة للإنسان والعالم.








اضافةتعليق
التعليقات