إن السمة المميزة للذكاء البشري أننا لا نعيش داخل عقولنا الخاصة فحسب، بل نعيش في عالمٍ مشترك من المعرفة. نحن نعتمد بشكلٍ مذهل على ما يعرفه الآخرون، ومع ذلك نرتكب خطأً فادحاً يتمثل في الاعتقاد بأن هذه المعرفة هي ملكنا الشخصي. هذا ما يُعرف بـ “وهم العمق التفسيري”.
لقد أثبتت التجارب أن أغلب الناس يعتقدون أنهم يفهمون كيفية عمل الأشياء اليومية، مثل المرحاض أو الدراجة الهوائية أو القفل، لكن عندما يُطلب منهم كتابة شرحٍ دقيق لآلية عملها، يكتشفون فجأة أنهم لا يملكون أدنى فكرة. نحن نخلط بين المعرفة التي نصل إليها بسهولة عبر محيطنا، وبين ما يوجد فعلياً في رؤوسنا. نحن نعيش في مجتمع معرفي، حيث تُوزَّع المهارات والمعلومات بين الناس، تماماً كما تُوزَّع المهام في المصنع.
وهم الفهم الفردي
المشكلة ليست في أننا نجهل الكثير، بل في أننا نجهل مقدار جهلنا. نحن نعتقد أن تفكيرنا عملية فردية تجري داخل الجمجمة، لكن الحقيقة أن التفكير عملية اجتماعية بامتياز. فعندما نتحدث عن “معرفتنا” بمرضٍ ما أو بتقنية معينة، فإننا في الواقع نشير إلى معرفة الخبراء والأطباء والمهندسين. العقل البشري ليس مصمماً ليكون مستودعاً للمعلومات، بل ليكون معالجاً لها ضمن شبكة.
هذا الوهم هو ما يسمح لنا بالعمل في عالمٍ معقد؛ فلو كان على كل فرد منا أن يفهم جميع تفاصيل التكنولوجيا التي يستخدمها، لما استطعنا التقدم خطوة واحدة. نحن نثق في “الخبراء” وفي “النظام”، وهذه الثقة هي ما يجعل الحضارة ممكنة. لكن الجانب المظلم لهذا الوهم يظهر في السياسة والقرارات الكبرى؛ إذ يتبنى الناس مواقف متطرفة تجاه قضايا معقدة، مثل التغير المناخي أو السياسات الاقتصادية، من دون امتلاك فهم حقيقي لآلياتها. إنهم يمتصون آراء “مجتمعهم المعرفي” ويظنون أنها نابعة من تحليلهم الشخصي.
مجتمع المعرفة: قوة وضعف
نحن ننجح لأننا نستطيع الاستفادة من ذكاء الآخرين. القوة البشرية الحقيقية تكمن في قدرتنا على التنسيق والتعاون، لا في عبقرية الفرد المنعزل. لكن لكي نتحرر من ضلال هذا الوهم، علينا أولاً أن ندرك حدودنا. فالتواضع الفكري هو البوابة الوحيدة للفهم الحقيقي. عندما نعترف بأننا لا نعرف بقدر ما نعتقد، نبدأ في طرح أسئلة أفضل، ونقدّر قيمة الخبراء، وندرك أن الحقيقة ليست ملكية خاصة، بل جهداً جماعياً مستمراً.
الوهم، في حد ذاته، ليس شراً مطلقاً؛ بل هو آلية بقاء. يمنحنا الثقة للتعامل مع عالم يفوق قدراتنا العقلية الفردية بمراحل. غير أنه في عصر المعلومات، حيث يسهل الوصول إلى أنصاف الحقائق، يصبح هذا الوهم خطيراً إذا لم يقترن بالوعي. فالمعرفة ليست شيئاً تمتلكه، بل شيئاً تشارك فيه. نحن نشعر بأننا نعرف لأن المعرفة موجودة في البيئة المحيطة بنا، تماماً كما نشعر أننا نرى بوضوح رغم أن نقطة تركيزنا البصرية صغيرة جداً؛ أما البقية فيملؤها العقل والبيئة.
إن إدراكنا لـ “وهم المعرفة” ليس دعوة لليأس أو للاستخفاف بالعقل البشري، بل دعوة لإعادة تعريف ماهية الذكاء. فإذا كان العقل الفردي محدوداً بطبعه، فإن قوتنا الحقيقية تكمن في الذكاء الجماعي. وللانتقال من مجرد “الاعتقاد بالمعرفة” إلى “الاستفادة الحقيقية” منها، يضع لنا الكاتبان خارطة طريق تتلخص في دروس عملية لحياتنا اليومية:
أولاً: ممارسة التواضع الفكري
الخطوة الأولى للتعلم هي الاعتراف بالجهل. ففي بيئات العمل أو الدراسة، يكون الشخص الذي يقر بعدم امتلاكه الإجابة الكاملة أكثر قدرة على التعاون بفعالية. التواضع الفكري يحمينا من اتخاذ قرارات متهورة مبنية على فهم سطحي، ويفتح لنا أبواب الاستماع للأصوات ذات الخبرة الحقيقية.
ثانياً: التحقق من “عمق التفسير” قبل الجدال
قبل تبني موقف حاد في قضية سياسية أو اجتماعية، جرّب التمرين الشهير في الكتاب: حاول أن تشرح “كيفية عمل” القرار أو السياسة التي تؤيدها أو تعارضها بتفصيل دقيق. غالباً ستكتشف أن حماسك نابع من انتماء اجتماعي، لا من فهم تقني. هذا التمرين كفيل بخفض حدة الصراعات العقيمة وتحويلها إلى حوارات بناءة.
ثالثاً: بناء “فرق معرفية” لا “أفراد عباقرة”
في حياتنا المهنية، علينا التوقف عن البحث عن “البطل الخارق” الذي يعرف كل شيء. النجاح المستدام يقوم على بناء فرق تتكامل فيها المعارف. فالفرد الذكي هو من يعرف من يعرف، لا من يحاول حشو رأسه بكل التفاصيل. القيمة الحقيقية في العصر الحديث ليست في امتلاك المعلومات، بل في القدرة على التنسيق بين مصادرها المختلفة.
رابعاً: تقدير الخبرة في عصر “جوجل”
لقد منحنا الإنترنت وهماً بأننا جميعاً خبراء لمجرد أننا نستطيع الوصول إلى المعلومة خلال ثوانٍ. لكن الوصول إلى المعلومة لا يعني استيعابها. علينا استعادة تقديرنا للخبراء الذين قضوا سنوات في فهم دقائق تخصصاتهم، وعدم الخلط بين مهارة البحث السريع والعمق المعرفي الذي يتطلب وقتاً وتجربة.
إن “وهم المعرفة” هو المرآة التي تُرينا حجمنا الحقيقي وسط هذا الكون الفسيح. نحن لسنا جُزُراً معزولة في التفكير، بل خيوطاً في نسيج معرفي ممتد. وعندما نتوقف عن محاولة الظهور بمظهر العارف بكل شيء، نبدأ أخيراً في المساهمة الحقيقية في ذكاء البشرية الجماعي. فالمعرفة ليست حملاً نضعه في رؤوسنا، بل جسراً ممدوداً بيننا وبين الآخرين.








اضافةتعليق
التعليقات