هناك في أعماق الروح لحظات صامتة، كأنها أنفاس قادمة من عالم آخر، لحظات لا تُسمع فيها إلا همسات القلب ونبضات الضمير، في هذه اللحظات القدسية، تُطل علينا شرفة الروح، وتهمس في أذن وجداننا: "اقبل.. إنهُ موعد البذل".
إنه النداء الخفي الذي ينتشلنا من ضجر الذات وضيق الأنانية، ليرفعنا إلى فضاءات العطاء الواسعة، فالبذل ليس مجرد كلمة تتهادى على الشفاه، بل هو لغة خاصة تُترجم بأفعال تشبه المعجزات، إنه السر الذي يحول الحياة من وجود مادي إلى قصيدة من نور، تُضيء لصاحبها طريق الخلود، وفي ساحة البذل هذه حيث تتصارع الأنفس بين الشح والعطاء، تبرز لنا قامة شامخة، امرأة جعلت من حياتها كلها وقفاً على الحب والإيمان، امرأة سمت ببذلها ليكون ترنيمة يرددها الأجيال، إنها السيدة أم البنين فاطمة بنت حزام (عليها السلام)، النموذج الذي حول لحظة الهمس إلى ملحمة عطاء تتحدث عنها القرون، كالشمس في كبد السماء، تُضيء الدجى، وترشد السالكين، وتذكر العالم بأن العطاء ليس فعلاً عابراً، بل هو جوهر الوجود وسر الخلود.
بذل في الحب.. يتجاوز الذات
لم تكن أم البنين مجرد زوجة للإمام علي (عليه السلام)، ولم تكن فقط أماً للأبطال الأربعة، بل كانت مدرسة كاملة في التجرد والعطاء، روحاً سخية وهبت نفسها كلها في سبيل مبادئها وقيمها، وإن أعظم أنواع البذل هو أن تبذل مشاعرك، أن تتصاغر أنانيتك في محراب الحب الإلهي والإنساني، فلقد دخلت أم البنين الدار وهي تعلم من ستكون أماً لهم، فلم تحمل في قلبها إلا الحب والوفاء، لم تُفرق بين ولد وولد، بل ربت الحسن والحسين (عليهما السلام) بقلب الأم الحنون، ورعتهما بعينها التي لم تنم، فكانا بالنسبة لها أعز من بصرها وروحها، لقد جسدت مفهوم البذل العاطفي بأسمى معانيه، إنه بذل ينطلق من إيمان عميق، وقلب متسع كالبحر لا يعرف حقداً ولا ضغينة.
ولم يكن بذلها مقتصراً على العاطفة، بل تجسد في أعظم مشروع إنساني وهو التربية، فلقد صاغت من أبنائها الأربعة رجالاً أشاوس، صمدوا في أعتى المحن، وترسخت في قلوبهم مبادئ الولاء والحق منذ نعومة أظفارهم، علمتهم أن الشهادة في سبيل الحق ليست مصيبة، بل هي قمة العز والكرامة، لم تربي فيهم حب الدنيا وزخرفها، بل ربت في صدورهم همة تعلو على الجبال، وإيماناً يثقب السماء، فجاءوا كما أرادت، وكما أراد الله ورسوله، خير سند للإمام الحسين (عليه السلام) في يوم الطف.
بذل في الصبر.. نسيج من نور ودموع
لقد وصلت ذروة البذل في ذلك اليوم، يوم كربلاء، اليوم الذي اجتمعت فيه كل أنواع العطاء في شخصها، لقد قدمت أربعة من أبنائها قرابين في سبيل الدين، واحداً تلو الآخر، حتى لم يبق منهم أحد، فأي قلب يتحمل نبأ استشهاد فلذات أكبادها الأربعة في ساحة واحدة؟
لكن العظمة هنا لم تكن فقط في التضحية بالأبناء، بل في سمو الروح وعلو الهمة، فالروايات التاريخية تؤكد أن أول سؤال سألته عندما وصلها خبر استشهاد الإمام الحسين (عليه السلام) كان: "كيف أصبح ابني الحسين؟" لقد جعلت مصيبة الإمام الحسين (عليه السلام) فوق مصيبتها، وغمها بفقد أولادها تحت غمها بفقد سبط الرسول (صلى الله عليه وآله)، إنه بذل يتجاوز المألوف، نالت به ذلك المقام الرفيع عند الله، فلم تبكِ على أبنائها أمام الناس، بل حفظت دمعة العين لتفجرها في الصلاة والمناجاة، كانت دموعها سراً بينها وبين ربها، أما في العلن، فكانت صابرة محتسبة، تروي مصيبة كربلاء للأطفال والنساء، لتبقى القضية حية، والدمعة جارية.
فالسلام على تلك الروح العظيمة التي ترسل لنا رسالة عبر الأزمان في معاني العطاء والقلب الباحث عن الخلود، وسيرتها ليست مجرد صفحات من الماضي نقرأها بدمع متحجر، بل هي منهج حياة نعيشه بأنفاسنا في زمن طغت فيه المادة وتفشت الأنانية، تأتي هذه السيرة العطرة لتعلمنا في هذا الزمن الصاخب، حيث تتصارع الأصوات ويتزاحم البشر، والقلوب تزداد وحشة، حيث أصبحت فيه "الأنا" هي البطل، فيصدح فعلها من عمق التاريخ ليصدمنا بسؤال وجودي:
أين أنت من البذل؟
ليس بذل المال فحسب، بل بذل المشاعر الذي أصبح أغلى من الماس، بذل كلمة طيبة في وجه أخٍ حزين، بذل ساعة من وقتك لصديق يحتاج لأذن تسمعه، بذل غض الطرف عن زلة، بذل شكر لمن يستحق، بذل صبر على من نحب، انظر حولك أمك التي تنتظر اتصالك، زوجتك التي تتوق إلى كلمة تقدير، صديقك الذي يخفي هموما، أبوك الذي يعطي دون أن يتكلم، جارك الذي قد يكون في أمس الحاجة لصحبة، كل هذا يسألك عن البذل، فزماننا ليس معركة في أرض، بل معركة في كل قلب، معركة بين أنانية تهمس لك: "احفظ نفسك لنفسك"، وروح العطاء التي تناديك: "أنت جزء من كُلٍ أكبر"، فالبذل الحقيقي ليس أن تعطي ما فاض عنك، بل أن تعطي ما هو جزء منك، أن تعطي من وقتك، من مشاعرك، من اهتمامك، من حضورك، ولا تنتظر حتى تصبح غنياً كي تبذل، فأغنى الناس قلوباً هم الأكثر عطاء، ويمكنك أن تبدأ من حيث أنت:
· ابتسم.. فهذا بذل
· استمع.. فهذا عطاء
· سامح.. فهذه حرية
· اشكر.. فهذا اعتراف بالجميل.
لتكن حياتك قصيدة عطاء كما كانت حياة السيدة أم البنين (عليها السلام)، ففي النهاية لن يُسأل الإنسان كم جمع، بل كم أعطى، لن يُسأل عن مكانته بين الناس، بل عن قلبه بينهم، إنها تخبر قلبك أن لا تدع قسوة العالم تقسيك، لا تدع خيبات الأمس تمنعك عن عطاء اليوم، ابذل لأن في العطاء حياة أخرى للقلب، ومساحة من النقاء لا تصل إليها أنانية العالمين، ابذل فالعطاء هو أجمل لغات الوجود، وأصدق تعبير عن أنك حي.








اضافةتعليق
التعليقات