اعتصم الوتر المهدوي في شخص الإمام العسكري، وعسكر النور في صلبه، وتغلّب على سيف الغدر، فكان وعاءً لسرّ الله تعالى وسط تقلبات مزدحمة ولافتات ساخطة وأفواه تعشق المصالح.
أضحى فؤاده فجرًا يتقد بأسس الفلاح والصلاح، مع دراية جمعت الحديث، وارتقت حضارة قبل أن تولد. لم يختلف مقام الإمام ومزاياه وكراماته من هيبة وعصمة وأخلاق وشجاعة وغيرها من المضامين والصفات اللدنية بأقلّ من الأئمة الذين قبله.
تهابه الملوك وتخضع لجلاله دون قيد أو شرط، وتسخّر له الكائنات، وتُظهر على يديه المعاجز.
ناهيك عن أفعال الخير التي كان يقدّمها، والتي يعجز عن فعلها أقوى الناس نفوذًا. لقد كان محترم الرأي، صائب السداد، يؤخذ بمشورته، وله من العبادة والزهد والصلاح ما يجعل الخلائق تتبجّل له إكرامًا.
فهو على خُلُقٍ عظيم، اختاره الله تعالى لحمل رسالة التغيير وحفظ الودائع وأمانة التراث.
كان يُلقّب بالصامت، والهادي، والرفيق، والزكي، والنقي، وغير ذلك من الألقاب التي تعكس خصاله الحميدة. كما يُلقّب هو وأبوه الهادي وجدّه الإمام الجواد بـ «ابن الرضا». كما يُلقّب بـ «العسكري»؛ لأنه بقي بعد استدعائه من المدينة إلى عشرين سنة وتسعة أشهر في سامراء، واستوطنها مع أبيه عليهما السلام.¹
وذكر الشيخ الصدوق في كتابه كمال الدين ونقل قول أحد وزراء البلاط العباسي:
«ما رأيت ولا عرفت بسرّ من رأى من العلوية مثل الحسن بن علي، ولا سمعت بمثله في هديه وسكوته وعفافه ونبله وكرمه عند أهل بيته. ولم أر له وليًا ولا عدوًا إلا ويحسن القول فيه والثناء عليه…».
الإمام وأسلوب العمل
لم تكن خطى الإمام العسكري عليه السلام نافذة التلقين، بل متعددة الأطروحة بعقل واحد شامل، واللغة فكرًا ومنطقًا. لقد دمج العصر وظروفه مع أمّ الأفكار والعقيدة، وحافظ على مدرسة العلم والمعرفة من أوجه التغيير والاشتباهات.
ورغم كل الصفات الفاخرة والمزهوة بالفضائل الطيبة التي كان يتصف بها الإمام عليه السلام، من قدرة وعصمة وعلم يفيض بالثبات والأصالة، وهمّة تكوينية، ورغم تفاعل الفئات البشرية معه وحبّها له والتزامها بالفيض الإلهي النوراني، إلا أنّ الأسلوب القمعي الذي كانت تمارسه السلطة العباسية آنذاك كان يخلق عائقًا كبيرًا للالتفاف حول بيت الإمامة والعصمة، وأخذ المعارف والارتواء من علم الإمام، أو التعامل معه من قريب.
لذا احتوى الإمام عليه السلام هذا الظرف، وتعامل معه بالحيطة والحذر لدفع الضرر عن شيعته ومريديه حتى لا يشملهم قمع وتهديد العباسيين إلى أقصى حد، وليتسنّى له نشر التعاليم السماوية بدقة.
فكان من خطته أن ينتزع ظاهرة الهلع من المجتمع الشيعي، ليتسنّى لهم العمل وسط خطة مدروسة قائمة على التقنية والنظام المندرِج بالتخطيط وفق نقاط وأساليب معيّنة.
الإمام ومنظومة الوكلاء
سعى الإمام وسط هذا الزحام إلى خلق استراتيجية تسعى لسدّ النقص في حفظ قالب الشريعة وتساؤلاتها من فروع وأصول، بذكاء حاذق. فأشرف على منظومة تمحورت حول ترسيخ مبادئ المذهب، والعمل على إيصال الفكر الإسلامي الشيعي إلى أنحاء المعمورة، وتضميد النفس الشيعية من أهوال التشتت الفكري بسبب الخوف والضعف والتخاذل والعنف.
وكان ذلك بطريقة تُعَدّ نقطة تحوّل في تاريخ البشرية، إذ جعل نوّابًا عنه سلام الله عليه ليكونوا الحبل الممتد بينه وبين مواليه، وصلة الوصل. وهذا ما أقلق السلطات العباسية، فسعوا للتضييق عليه. ومن هنا طالبته السلطة بالمثول لديها في دار الخلافة بسرّ من رأى في كل اثنين وخميس لاستجوابه.
وقد ذكر الرواندي في الخرائج:
«اجتمعنا بالعسكر، وترصّدنا لأبي محمد يوم ركوبه، فخرج توقيعه: ألا لا يسلّمن عليّ أحد، ولا يشير إليّ بيده، ولا يومئ أحدكم؛ فإنكم لا تأمنون على أنفسكم».
فكان الوكلاء العامل الأكثر ثقة، والوسيط عنه لإدارة كل شؤون الدين والدنيا، وكل ما يخدم البشرية، ونقل نصائح وبيانات الإمام عليه السلام للاستزادة من منهل علمه ونوره على نطاق واسع.
وكان القبول بفكرة (النواب/الوكلاء) وأهمية الارتباط بهم هو البداية التي سوف تأخذ مجراها للعهود اللاحقة في عصر الغيبة.
وكان عثمان بن سعيد أحد نوابه، تولّى النيابة في حياته وبعد وفاته، وبقي فيها حتى عصر الغيبة الصغرى، فأصبح أول وكيل ونائب خاص للإمام المهدي.²
الإمام وزخم المواجهات
من جهة أخرى، سعى إمامنا الهمام إلى التركيز على الإمامة كولاية مفروضة الاتباع، وشرطٍ في إتمام الأعمال، وسط ظروف القمع واختزال الحق من أهله.
فعصره كان شبيهًا بعبوة ناسفة تنتظر لمسة انفجار. لقد كان فتيل الحرب والعداء لآل البيت قائمًا، ولم يهدأ حتى ينالوا من فجر الانتظار. وقد استخدموا كل السبل للفتك بآل البيت وإفشال المواهب التي تسعى لإيقاظ البيت الشيعي من الخذلان والغفلة.
فتعرّض الإمام عليه السلام للمطاردة والتضييق والسجن، والعزلة عن مواليه، والإقامة الجبرية داخل مخيم عسكري مرارًا في سامراء من قبل السلطة العباسية.
وقد نصّ على خلافته وتولّيه الإمامة من بعد أبيه الهادي سلام الله عليهما.
ذكر في الكافي الشريف:
قال علي بن عمرو النوفلي: «كنت مع أبي الحسن في صحن داره، فمرّ بنا محمد ابنه، فقلت له: جعلت فداك، هذا صاحبنا بعدك؟ فقال: لا، صاحبكم من بعدي الحسن».
وروى الشيخ المفيد عن محمد بن إسماعيل العلوي قال: حبس أبو محمد عند علي بن أوتامش (أو بارمش) وكان شديد العداوة لآل محمد عليهم السلام، غليظًا على آل أبي طالب. وقيل له: افعل به كذا وكذا. قال: فما أقام إلا يومًا حتى وضع خدّيه له، وكان لا يرفع بصره إليه إجلالًا له وإعظامًا، وخرج من عنده وهو أحسن الناس بصيرة وأحسنهم قولًا فيه.
الإمام والإنجازات
لقد سعى الإمام عليه السلام وسط هذا الزخم من الفوضى والتعقيدات إلى أن يربي جيلًا على حبّ آل البيت، وإمداده بتراث العصمة الذي لا بديل له في الحياة، من خلال الإرشادات والإشارات التي تحفّ بالخلق واللطائف الإمامية.
فكان من إنجازاته إنشاء جيل من الرواة للحديث وطلاب علم في مختلف المجالات لحفظ الشريعة الإسلامية من الضياع.
ترك الإمام العسكري عليه السلام مجموعة من الأحاديث في مجال التفسير القرآني المعروف بـ تفسير الإمام العسكري، والأخلاق، والقضايا العقائدية، إضافة إلى الأدعية.³
كما هيّأ الشيعة للتعرف على المشروع المهدوي الذي كان يعمل عليه الإمام سلام الله عليه بتقية خاصة، واستدراج فكرة عصر الغيبة والتمهيد لها في نفوسهم، حتى تفهم القاعدة الشيعية أنها من كمال اعتقادات المذهب، وأنها أساس النهج وأولوية الطاعة لأهل البيت عليهم السلام.
الأمر الذي أكدته الأحاديث النبوية والعلوية وكل الأئمة عليهم السلام، ليفهم موالوهم وكل الأجيال أن الإسلام لا يتوقف عند حقبة معيّنة من استشهاد كل إمام، بل إن الرسالة ممتدّة إلى سلسلة طويلة على امتداد الخليقة، يقودها التاريخ بفضل العلماء والوكلاء والمراجع الكرام من بعد الأئمة الأطهار حتى الفرج بالظهور المبارك، حيث تظهر الحقيقة كاملة، ويستتبّ النور، وتفتح المعاقل المشكّكة بفكرة الإمام المنتظر وولادته، وتتعادل الحلول بشأن الفتح الكبير الذي بدأ بالوجود المحمدي، ويُختتم بالراية المهدوية.
اضافةتعليق
التعليقات