"عظم الله أجوركم في نبيّكم، فقد قبضه الله إليه"، بهذا الخطاب الوجيز بكلماته، العظيم بوقعه على النفوس أعلن الإمام علي (عليه السلام) النبأ الموجع لقلوب المحتشدين أمام حجرة الرسول (صلى الله عليه وآله)؛ فارتجّ الموضع بالبكاء والعويل، وزُلزلت الأرض تحت الأقدام، ماجت المدينة بأهلها كسفينة تتقاذفها الأمواج!
وفيما كان المسلمون غارقون بلجج اللوعة لا يكادون يصدّقون رحيل الحبيب المصطفى من بين أظهرهم وإذا بصوت يهدر صارخا كقصف الرعد: "إن رجالا من المنافقين يزعمون أن رسول الله توفى وأن رسول الله ما مات ولكنه ذهب إلى ربه كما ذهب موسى بن عمران فغاب عن قومه أربعين ليلة، ثم رجع بعد أن قيل قد مات، ووالله ليرجعنّ رسول الله فليقطعنّ أيدي رجال وأرجلهم يزعمون أن رسول الله مات".
ذُهِل الناس الذين فجعهم الحادث الجلل، فسكنت الأصوات، وهدأت الرنّات، وتوجهت الأنظار لمصدر الصوت، فإذا بهم يرون الثاني مصلّتاً سيفه وهو يبرق ويرعد حتى أزبد شدقاه وهو يتهدّد بقتل كل من يقول أن رسول الله قد مات !
موقف يدعو للاستغراب والدهشة، ما معنى هذه المقالة، وإلى أي شيء يرمي قائلها وقد أعلنَ عن موت رسول الله (صلى الله عليه وآله) توا أقرب الناس به عهدا، ومَن مات الرسول في أحضانه؟
لا شك أن الإمام علي (عليه السلام) كان يسمع صولة الرجل وزمجرته في الخارج، وكان يعلم القصد منها؛ لكنه كان منشغلا بأمر أجلّ وأعظم عن كل ما يجري في الخارج من كيد وتآمر .
كان عليه السلام يعلم أن الرجل لم يكن مصدوما أو مفجوعا برحيل النبي (صلى الله عليه وآله) كما كان يتظاهر، بل كان يرّتب لأمر، وكان يعمل على إرباك الناس وإشغالهم انتظارا لحضور شركائه في المشروع الذي خططوا له سابقا، وقد آن الأوان لتنفيذه!
كان يعلم بالمؤامرة التي كانت خيوطها تُنسج كخيوط العنكبوت، وتلتفّ حول عنق الأمة لتجهز عليها؛ فقد أخبره الرسول (صلى الله عليه وآله) بتفاصيل ما سيحدث بعد رحيله، وأوصاه بوصاياه، وما ينبغي عليه أن يفعل في مواجهة انقلاب الأمة!.
ومرّ الوقت ثقيلا ينذر بالغدر والشر .
وفجأة هدأت سورة غضب الرجل، وابتلع الصمت صوته الذي كان يجلجل قبل قليل، فما الذي أسكته؟
لقد وصل صاحبه الذي كان ينتظره على أحرّ من الجمر، بعد ما بعث الرُسُل تستدعيه على عجل، وتبلّغه برحيل النبي (صلى الله عليه وآله) .
تُرى أين كان غائبا في الساعات الأخيرة من حياة المصطفى، أليس هو أقرب الصحابة إليه، ومن منطلق هذا القرب كان المفروض أن يكون متواجدا في هذا الوقت العصيب والرسول يعالج سكرات الموت، ألم يكن قد عاد أدراجه إلى المدينة
وحجته: "جئت لأجدّد بك عهدا"
بعد أن عبّأه الرسول وجملة من الصحابة في سرية أسامة وشدّد عليهم بالخروج وهو يكرر: "نفذوا جيش أسامة لعن الله من تخلف عنه" لكنهم عصوا أوامر الرسول عصيانا سافرا، وضربوها عرض الحائط .
ولكنه - بعد أن جدّد بالنبي عهدا - تركه على فراش المرض وانطلق يستجمّ في ضيعته في منطقة السنح خارج المدينة، وها هو يعود بسرعة البرق عندما وصل إليه الخبر الذي كان يترقّبه!
وفور وصوله دخل الحجرة، وألقى على الرسول (صلى الله عليه وآله) نظرة خاطفة، ثم وتوجّه إلى الجمهور الذي أذهله المصاب قائلا: "من كان يعبد محمّدا فإنّ محمّدا قد مات، ومن كان يعبد الله فإنّ الله حيّ لا يموت وتلا قوله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولࣱ قَدۡ خَلَتۡ مِن قَبۡلِهِ ٱلرُّسُلُۚ أَفَإِی۟ن مَّاتَ أَوۡ قُتِلَ ٱنقَلَبۡتُمۡ عَلَىٰۤ أَعۡقَـٰبِكُمۡۚ وَمَن یَنقَلِبۡ عَلَىٰ عَقِبَیۡهِ فَلَن یَضُرَّ ٱللَّهَ شَیۡـࣰٔاۗ وَسَیَجۡزِی ٱللَّهُ ٱلشَّـٰكِرِینَ} .
وصدّق الرجل الثائر بسرعة مقالة صاحبه بعد أن سأله: "هل هذه الآية في كتاب الله؟" فأجابه: "نعم"
فتنفّس الصعداء وقال: "فو الله ما هو إلاّ إذا سمعتها فعقرتُ حتى وقعتُ على الأرض ما تحملني رجلاي وقد علمت أنّ رسول الله قد مات" .
ومع إن بعض من كان حاضرا قد تلا عليه الآية نفسها لكنه لم يستوعبها إلا حينما سمعها من صاحبه !.
أغرب ما يمكن أن يقال في هذا الموقف، فهل كان أحد من المسلمين يعبد رسول الله؟ بل كانوا جميعا موقنين بأنه عبد الله ورسوله اختاره الله لوحيه واصطفاه لهداية خلقه!.
وبعد أن انتهى المشهد التمثيلي، الذي أجاد الرجل أداءه، أغمد سيفه، ووضع يده بيد صاحبه واختفيا عن مسرح الحدث، لقد انطلقا مسرعَين إلى سقيفة بني ساعدة ومعهم شريكهم الثالث أبو عبيدة، ليضعوا مخططهم الانقلابي موضع التنفيذ، ويؤسسوا أساس الظلم والجور على عترة الهادي في أبشع مؤامرة حيكت على طول التاريخ وعرضه، مؤامرة لا زال الإسلام والمسلمون يئنّون من أوجاعها !!
وفي سقيفة الشؤم صار النزاع بين المهاجرين والأنصار، علت الأصوات، واحتدم النقاش، ما بين الوعد والوعيد، والمساومة والتهديد، لينتهي الموقف باغتصاب الخلافة من الخليفة الشرعي، حيث بويع الأول في غفلة من المسلمين، وزُفّ إلى المسجد كما تُزف العروس، وكان القوم في الموكب لا يمرّون بنفر من المسلمين إلا وضعوا يده على يد الخليفة - عنوة - ليبايعه!.
وتمّ الأمر والإمام علي (عليه السلام) وبنو هاشم منشغلين بتجهيز رسول الله قد أوهى قواهم المصاب الأليم حتى جاءهم من يطرق عليهم الباب طرقا شديدا مناديا: " يا معشر بني هاشم، بُويِعَ أبو بكر"!
فهل نعجب لماذا كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) في أشدّ حالات الحزن في الأيام التي سبقت رحيله؟
لأنه كان يعلم أن الفتن قادمة كقطع الليل المظلم، وأن أمته ستنقلب على الأعقاب، كان يعلم بما سيجري على وصيّه وبضعته، وسبطيه من الظلم والقهر .
رحل المصطفى وفي صدره آهة حرّى، وبين جفنيه دمعة من لظى لا زالت تكوي قلوب محبيه .
رحل حبيب الله وقد خلّف ذريّته في مهبّ الإعصار من قوم جحدوا وصيّته، ولم يصونوا عهد المودّة فيهم، وخلّف أمّته لِيُتمٍ ليس له انقضاء، ومآتم يتجدد فيها العزاء، ويتردد فيها صدى الباكين على الراحلين - غدرا - بسمٍّ أو سيف !.
اضافةتعليق
التعليقات