في كل عام، ومع إقتراب موسم زيارة الأربعين، تتحول الطرق المؤدية إلى كربلاء إلى مسرحٍ مهيب لواحدة من أضخم وأعجب الظواهر الإنسانية والدينية في العالم، حيث تصطف آلاف المواكب الحسينية على امتداد مئات الكيلومترات، لا بهدف التظاهر أو الاستعراض، بل لتقديم خدمات مجانية متنوعة لملايين الزائرين الذين يقطعون الطريق مشياً على الأقدام صوب مرقد الإمام الحسين وأخيه أبا الفضل العباس (عليهما السلام).
مواكب تتجاوز مفهوم الضيافة
ليست المواكب الحسينية مجرّد موائد طعام، بل منظومات خدمية متكاملة، يعمل فيها المتطوعون بروح التضحية والكرم والإخلاص. تمتد خدماتها لتشمل توفير الطعام والشراب، أماكن المبيت، العناية الصحية، النقل، وحتى إصلاح الأحذية وتوفير الإنترنت وخدمات الترجمة للزوار الأجانب. هذه المواكب تؤكد أن الخدمة في سبيل الإمام الحسين (عليه السلام) تمثل قيمة عليا، تذوب فيها الفوارق الطبقية والعرقية وحتى الدينية.
الخدمة كـعقيدة
ما يميز المواكب الحسينية هو أنها لا تنطلق من مؤسسات حكومية أو جهات رسمية، بل من مبادرات فردية وجماعية، أغلبها شعبية، تموّلها تبرعات الأهالي أو نذور خاصة. هذا الحراك الجماهيري الواسع يكشف عن عقيدة راسخة في وجدان المجتمع العراقي، مفادها أن خدمة الزائر للحسين تعادل شرفاً دينياً ووساماً أخلاقياً. ويتحول الموكب إلى مدرسة عملية في نكران الذات، والإيثار، والعمل الجماعي المنظم.
الخدمة بلا مقابل.. لكنها ليست بلا هدف
ورغم الطابع المجاني للخدمات، فإن المواكب لا تخلو من رسالة تربوية وأخلاقية. فهي تعلّم الجيل الجديد ثقافة العطاء والتعاون، وتعمّق روابط المحبة بين أبناء المجتمع، وتمنح للزائر تجربة روحية متكاملة. كما أصبحت هذه المواكب وسيلة لتعريف الشعوب الأخرى بقضية الإمام الحسين (عليه السلام) وعدالة نهضته، عبر الخدمات المقدمة للأجانب والمبادرات الإعلامية المصاحبة لها.
ليس مجرد رحلة
في ظل عالمٍ تتراجع فيه القيم، وتُقاس فيه العلاقات بالمنفعة والمصلحة، تقف المواكب الحسينية شامخة، شاهدة على أن العطاء بلا مقابل لا يزال حياً، وأن هناك أناساً يصنعون من الإيمان جسوراً، ومن الوفاء أفعالاً، ومن الحسين طريقاً نحو إنسانيةٍ أنقى، ومجتمعٍ أقوى، وعالمٍ أكثر قرباً من جوهر العدالة.
المواكب الحسينية تمثل إنموذجاً فريداً في العمل الإنساني التطوعي، لا مثيل له في أي مكان آخر من العالم. إنها أكثر من خيام أو قدر طعام، بل هي تعبير صادق عن قيم حضارية عريقة، تختصر في معناها العميق أن طريق كربلاء ليس مجرد رحلة نحو قبر، بل نحو الإنسان نفسه، حين يتحول إلى خادمٍ لغيره، في حبّ الحسين (عليه السلام).
اضافةتعليق
التعليقات