في كل مجتمع، هناك نوعان من الأشخاص: من يقفون عند حدود الشكوى، ومن يتخطونها إلى الفعل والمبادرة. وبين هذين النموذجين تتحدد ملامح المجتمع الناجح أو المتقاعس. فالشكوى، رغم كونها في بعض الأحيان ردّ فعل طبيعي تجاه الظلم أو التقصير، قد تتحول إلى أسلوب حياة إذا لم تتبعها خطوات حقيقية نحو التغيير.
إن ثقافة الشكوى تعني أن نركّز على ما لا يعمل، على العوائق والعقبات، وأن نلقي اللوم على الظروف والآخرين. أصحاب هذه الثقافة يرون أنفسهم دائماً ضحايا للواقع: يشكون من قلة الفرص، ومن غلاء المعيشة، ومن ضعف الخدمات، ومن «الناس الذين لا يفهمونهم». لكنهم نادراً ما يسألون أنفسهم: ماذا فعلت أنا لأغيّر هذا الواقع؟
تتحول الشكوى عند هؤلاء إلى راحة نفسية مؤقتة، تُعفيهم من مسؤولية المحاولة. فهي تُشعرهم بأنهم على حق، وأن الخطأ في الآخرين، لا فيهم.
في المقابل، هناك فئة أخرى تعتنق ثقافة المبادرة. هؤلاء لا ينكرون المشكلات، لكنهم يرونها فرصاً للإصلاح والإبداع. حين يواجهون صعوبة، يسألون: ما الذي يمكنني فعله؟ كيف أبدأ؟ بدلاً من سؤال: من يُلام؟
إنهم يدركون أن التغيير لا يأتي من الخارج، بل يبدأ من الذات. فالمبادرة ليست مجرد فعل، بل طريقة تفكير إيجابية تؤمن أن لكل مشكلة حلاً، ولكل وضعٍ بديلاً أفضل.
تتجلى ثقافة المبادرة في المواقف الصغيرة قبل الكبيرة. فالموظف الذي يقترح فكرة لتحسين عمله بدل التذمر من النظام، يمارس المبادرة. والطالب الذي يسعى لتطوير نفسه بقراءة إضافية خارج المنهج، لا يكتفي بالشكوى من صعوبة المادة. وربّ الأسرة الذي يسعى لإصلاح الخلل بالحوار والتفاهم بدل الصراخ واللوم، يبني نموذجاً لمجتمعٍ أكثر وعياً ونضجاً.
لكن لماذا تنتشر ثقافة الشكوى أكثر من ثقافة المبادرة؟
الجواب يعود إلى التربية والنظام الاجتماعي. ففي كثير من البيئات، لا يُشجَّع الفرد على التجريب أو اتخاذ القرار، بل يُربّى على الانتظار: انتظار الحل من الدولة، أو من المدرسة، أو من «الأقدار». كما أن الخوف من الفشل يجعل الناس يختارون الطريق الأسهل الشكوى بدل المغامرة بالمحاولة.
من جهة أخرى، تساهم وسائل التواصل الاجتماعي في تكريس هذه الثقافة؛ إذ تحوّلت المنصات إلى ساحات تذمّر جماعي، يتشارك فيها الناس مشاعر الغضب دون أن تُترجم إلى أفعال. الشكوى الرقمية سهلة، والمبادرة الواقعية صعبة. لكن الفارق بينهما هو ما يصنع الفرق بين مجتمعٍ ساكن وآخر متطور.
إن ثقافة المبادرة لا تعني تجاهل المشكلات أو إنكار المعاناة، بل تعني تحويل الشكوى إلى خطوة عملية. من حقنا أن ننتقد ونعبّر عن استيائنا، لكن من واجبنا أيضاً أن نشارك في إيجاد الحلول. فكل مبادرة، مهما كانت صغيرة، هي لبنة في بناء التغيير.
وفي النهاية، المجتمعات التي تتقدم ليست تلك التي لا تشكو، بل التي لا تكتفي بالشكوى. هي التي تُربي أبناءها على طرح السؤال الأهم: ما دوري في الحل؟
إنها مجتمعات تدرك أن التذمّر لا يغيّر الواقع، لكن المبادرة تغيّره بالفعل. وبين من يشتكي ومن يبدأ، تُكتب قصة المستقبل.








اضافةتعليق
التعليقات