ليست التربية عملية تلقين، ولا هي تكرار للنصائح وتوجيهات تُلقى على مسمع الأبناء كل يوم. التربية الحقيقية هي أفعال قبل أن تكون أقوالاً، وهي سلوك يراه الطفل فيتعلّمه دون أن يُطلب منه ذلك. وقد لخّص الإمام علي (عليه السلام) هذه الحقيقة العميقة بقوله البليغ: “لسان الحال أبلغ من لسان المقال”. فالقدوة هي اللغة التي لا تُخطئها عين الطفل، ولا تُترجم إلا بالفعل.
في السنوات الأخيرة، تراجعت فكرة القدوة في حياة كثير من الأسر، وارتفعت مكانها ثقافة الوعظ المباشر. نسمع آباءً يرددون التعليمات صباح مساء: كن مهذباً، كن صادقاً، ذاكر دروسك، احترم الكبير، لا تكذب، لا تُهمل واجباتك… لكن الطفل لا يرى في الواقع ما يؤكد صدق هذه الكلمات. وحين تتناقض الأفعال مع الأقوال، تتزعزع ثقة الطفل، ويتعلم أن النصيحة شيء، والممارسة شيء آخر تماماً.
الطفل لا يتعلم بالكلام، بل بالسلوك. فإذا رأى والده يحترم وقته، تعلم قيمة الوقت. وإذا شاهد والدته تتعامل بلطف مع الآخرين، تعلم اللطف. وإذا لاحظ أن والديه يحترمان القوانين، تعلم احترام النظام. إن الطفل ينسخ الصورة التي يراها، لا الكلمات التي يسمعها. ومن هنا تأتي خطورة التربية بالكلمات فقط، لأنها تخلق فجوة بين ما يُقال وما يُعاش، وتبقي القيم في مساحة النظرية دون أن تتحول إلى واقع.
إن القدوة ليست مسؤولية فرد واحد، بل هي منظومة تتكامل فيها الأسرة والمدرسة والمجتمع. لكن الأسرة تبقى المدرسة الأولى والأهم، لأنها البيئة التي يقضي فيها الطفل سنوات التشكّل الأولى، حيث تُرسم الملامح الأولى لشخصيته. وحين تكون الأسرة قدوة صالحة، تصبح المدرسة مكملة، ويصبح المجتمع امتداداً طبيعياً، فننشئ جيلاً لا يحتاج إلى كثير من الوعظ لأنه نشأ في بيئة تمارس ما تقول.
ولكي تتحقق التربية بالقدوة، يجب أن يدرك الوالدان أن أعين الأطفال تراقب التفاصيل قبل العناوين. فحين يرى الطفل أن والديه يتعاملان مع الخلاف بهدوء، يتعلم الحوار. وحين يشاهد والده يعترف بخطئه، يتعلم الشجاعة الأخلاقية. وحين يرى والدته تعتذر عند الخطأ، يتعلم التواضع. هذه السلوكيات الصغيرة تُشكّل ضمير الطفل، وتبني داخله بوصلة تميّز بين الصحيح والخطأ دون صراخ أو توبيخ.
ولا يعني ذلك أن الكلمات لا ضرورة لها، بل أن قيمتها تكتمل حين تُساندها الممارسة. فالكلمة الصادقة تُثمر فقط حين تجد فعلاً يثبتها. أما حين تكون الكلمات كثيرة والأفعال قليلة، فإن أثرها يتلاشى ويضعف، لأن الطفل يشعر بالتناقض الداخلي في كلام المربي، فيفقد الانسجام ويصعب عليه بناء قناعات ثابتة.
ولعلّ من أهم جوانب التربية بالقدوة هو ما يقدمه الوالدان من نموذج وجداني. فالطفل يتأثر بطريقة انفعالات والديه أكثر مما يتأثر بكلماتهم. إن رآهما متوازنين، تعلم التوازن. وإن رأى أمامه غضباً غير محسوب، حمل معه هذا الغضب. وإن شاهد مربيه يتعامل مع الضغوط بإيمان وصبر، تعلم أن القوة ليست في الصراخ بل في الثبات.
غير أن التربية بالقدوة تتطلب من الكبار جهداً أكبر من مجرد الحديث؛ تتطلب تصحيح الذات قبل تصحيح الأبناء. فالوالد الذي يطلب من ابنه الالتزام يجب أن يكون ملتزماً، والذي يطلب منه النظام يجب أن يُظهر النظام، والذي يطلب منه الأمانة يجب أن يمارس الأمانة. بذلك فقط يصبح لمطالبه معنى، ولتعليمه أثر.
وفي زمن تتعدد فيه المؤثرات على الطفل، بين إعلام مفتوح، ومنصّات لا تنتهي، ونماذج بعضها بنّاء وبعضها مضلِّل، تصبح القدوة الصادقة داخل البيت حصناً أساسياً يحمي الطفل من الانجراف.
فالقدوة لا تمنع الأخطاء، لكنها تمنح الطفل معياراً يعود إليه حين يضيع، ومقياساً يقيس به اختياراته.
وفي النهاية، يمكن القول إن التربية بالقدوة ليست أسلوباً من أساليب التربية فحسب، بل هي جوهر التربية كلها. هي الرسالة التي تُمارس لا التي تُقال، والسلوك الذي يبقى في الذاكرة طويلاً بعد أن تختفي الكلمات.
فالأبناء لا يتذكرون ما سمعوه، بل ما رأوه…
ولهذا، تبقى القدوة أقوى من مئة نصيحة، وأعمق أثراً من ألف كلمة.








اضافةتعليق
التعليقات