هناك نقاش لا يتوقف حول أهداف عملية التعليم، وهل هي استجابة لحاجة وحق انساني في التعلّم والُرقي الفكري، أم هي من أجل إعداد الناس لتلبية حاجات سوق العمل للمهارات؟
والموضوع يلقي بظلاله على صياغة أهداف التعليم عموماً والتعليم العالي بشكل خاصٍ.
منهج التنمية البشرية المستدامة، وهو منهج حديث للتنمية، يضع الإنسان في صُلبِ أهدافه (تنمية الإنسان من أجل الإنسان وبواسطة الإنسان)، يقول إن التعليم حق طبيعي وشرط للارتقاء بالإنسان ليس فقط ليكون مناسباً لحاجات سوق العمل، بل للارتقاء بقدراته ومستوى وعيه لكي يقوم بواجباته كإنسان في مجتمعه.
قد يكون الشخص، رجلاً أو امرأة، ثرياً ولا يحتاج إلى البحث عن وظيفة في سوق العمل، لكنه يحتاج التعلّم ليكون شخصاً أفضل سواء كرب أسرة أو كإمرأة تستطيع تربية اطفالها بشكل أفضل، وبعكس ذلك فإن أبناء الأثرياء من أصحاب الملايين يفترض أن لا يذهبوا إلى أي جامعة ويكونوا أميين لأنهم لا يحتاجون للبحث عن وظيفة.
تحمل المعادلة الكيميائية شقّين دائمين: المتفاعلات والنواتج، فما يتفاعل على اليمين يخرج مركبا على اليسار، وهكذا. ربما تفاجئنا النتيجة بأنها كانت أكبر من توقعاتنا، وهو ما يعني أننا قد نُسيء التقدير فنخفض الطموح لحده الأدنى، وهكذا فعل البروفيسور "جاكوطو" حين اختزل معادلة التعليم باعتبارها مقتصرة على المعلومات وحسب، حتى فاجأته التجربة الواقعية أن الطالب والعلم والمعلم -كمدخلات- يمكنهم أن يخرجوا بنتائج أكبر من مجرد شهادة ورقية ووظيفة مرموقة.
تبدأ الحكاية قبل قرنين، عندما زار معلم الأدب الفرنسي "جوزيف جاكوطو" أمستردام، وتحديدا الجامعة الهولندية، ليبدأ مغامرة تعليمية كان قد أعدّ لها، والتي بدت مجنونة إلى حد كبير. فالسيد الفرنسي لم يكن على دراية باللغة الهولندية، في حين كان طلابه الهولنديون يجهلون الفرنسية بالقدر نفسه. لكنه قرر أن يبدأ مغامرته التي عجزت أفضل توقعاته عن التنبؤ بنتيجتها.
رواية "طليماك"، تلك كانت المهمة الأولى للسيد "جاكوطو" من أجل طلابه، سيقوم الشباب بكتابة ملخص "فرنسي" لتلك الرواية المترجمة للهولندية، وذلك عن طريق قراءة النصّ باللغتين واستيعابه بشكل كامل "هولنديًّا" ثم محاولة استيعابه بشكل عام "فرنسيًّا" ومن ثم كتابة الملخص المنشود.
كانت توقعاته -في أحسن حالاتها- أنه سيحصل على قراءات هشّة بلا معنى، أو أن الطلبة سيعلنون عجزهم عن فهم وحل مشكلات لغة جديدة بالنسبة لهم. لكن، ولأن القدرة مقترنة بالإرادة، كما يعلق "جاك رانسيير" على القصة، فإن الطلّاب قد فاجأوا أستاذهم باجتياز هذا الحاجز بنتائج كانت باهرة للأستاذ "جاكوطو".
هزّت تلك التجربة إيمان "جاكوطو" القديم القائم على أن مهمة المعلم تتمثل في نقل معارفه إلى تلاميذه، أو ما يسميه "باولو فريري" بنظرية التعليم البنكي حيث يودع المعلم معلوماته في عقل طلابه كمن يودع أمواله في خزينة بنكية. فالمعلم قد يسجن الذكاء بشكل تعسفي داخل دائرة، ويمكن تحرير الجاهل إذا كان المرء متحررا هو نفسه، أي واعيا بالسلطة الحقيقية للعقل.
ورأى "جاكوطو" أن التلميذ يمكنه تعلم ما يجهله المعلم، إذا اقتنع المعلم بهذه الإمكانية، لتتجاوز العملية التعليمية مساحة النقل والحفظ، فيزداد استيعابها لقدرات الإنسان، ومن ثم توظيفها في أمور أكبر من الوظيفة الروتينية أو المكتبية.
في هذا السياق، تخبرنا الكاتبة الألمانية "أنّا مسمان" أن "التعليم أكبر بكثير من أي مجال عمل محدد.. التعليم يساعد الناس على القيام بأداء أفضل في أي مهمة من خلال مساعدتهم باكتشاف كيفية التفكير وكيفية التعلم وكيفية ممارسة الانضباط الذاتي اللازم للإنجاز". فالأشخاص المتعلمون "يعرفون حقائق مفيدة بالطبع، ولكنّ الأهم من ذلك أنهم يعرفون كيف يعيشون".
هذا ما حاولت تجربة السيد "جاكوطو" شرحه، فالتفاعل بين الإنسان والعلم يمكن أن يفجّر منه قدرات أكبر بكثير من الحدود التي تحدّه فيها العملية التعليمية. فحسب "فريري، فإن الإنسان، لكي يعيش، ينبغي له أن يستشعر وجوده، وليحدث هذا فإنه بحاجة إلى التعليم الذي يكشف له عن ملكاته الإبداعية في فهم العالم ونقده وتطويره، وهو ما لا يحدث إلا من خلال عملية تعليمية تأخذ الطالب إلى العلم دون أن تقهره عليه.
بين الدرس والنفس
"ليس التعليم، على أي حال، ظاهرة أحادية الجانب، فإننا إذا نظرنا إليه عن قرب، فسوف نلاحظ اتجاهين مختلفين، متساويين ولكنهما مستقلان".
تحت شجرة المانجو، كان السيد "باولو فريري" يجلس متأملا في درب طويل خاضه منذ نعومة أظفاره ببلدته الصغيرة في البرازيل، مارا بشبابه وتدرجه في الفكر وفلسفة التعليم، مهتديا في النهاية إلى نوعين من التعليم يواجههما الإنسان: أولهما التعليم الأحادي -البنكي- الذي تتحرك فيه العملية التعليمية في اتجاه واحد من المعلم لتلاميذه.
وثانيهما التعليم الإنساني الذي يتفاعل فيه الطرفان بين الأخذ والرد، وهنا يهتدي إلى التربية القلبية في مواجهة العالم الجديد، فيقول إن "التربية التي تقدم الإجابات دائما، هي عملية عقيمة لا تؤدي إلى تنمية حب الاستطلاع الذي يعتبر أمرا لا غنى عنه في عملية اكتساب المعرفة، بل على العكس من ذلك، فإن هذا الشكل من أشكال التعليم يركز على الاستظهار الآلي لعناصر المحتوى التعليمي".
فالتعليم -حسب البروفيسور البرازيلي- يقوم على طرح التساؤلات، ومن ثم يثير ويحفز حب الاستطلاع. فالتعليم الذي يقوم على تقديم الإجابات يحمل خطأ، لا يكمن في الإجابة نفسها، وإنما يكمن في القطيعة بين الإجابة والسؤال، إذا لم يتم إدراك الإجابة كجزء من السؤال، لذا كان الطريق الحقيقي لخلق المحبة تجاه الاستطلاع هو طرح التساؤلات والإجابة عنها.
ثم، وفي خطوات هادئة، يمضـي "بيغوفيتش" نحو فلسفة المعرفة والحكمة، كونها الشيء الذي يسيطر على وجود الإنسان، فيفرد التعليم على طريقين: الطريق التقني/العلمي، والطريق الكلاسيكي/التربوي، أو بكلمات أخرى: التعليم والتأمّل. فهما -حسب قوله- نوعان من الطاقة يستهدفان اتجاهين مختلفين، فلو كان الإنسان يصل للطبيعة عن طريق العلم، فإنه يصل إلى نفسه عن طريق التأمّل، ولو كان العلم يجيب عن الأسئلة التي تتعلق بكيفية إدارة المجتمعات والحكومات، فإن التأمل يجيب عن التساؤلات التي يضع بها الإنسان تفسيراته لنفسه وعالمه".
فالتعليم وحده "لا يرقى بالناس ولا يجعلهم أفضل مما هم عليه أو أكثر حرية وإنسانية، إن العلم يجعل الناس أكثر قدرة، أكثر كفاءة، أكثر نفعا للمجتمع"، كما أن "التعليم المدرسي في العالم المتحضـر يعتمد على الفكر أكثر مما ينبغي، والجانب الإنساني فيه أضأل مما ينبغي، فمن الممكن جدا أن نتخيل شابا قد مرّ بجميع مراحل التعليم دون أن يُذكر له أهمية أن يكون خيّرا وأمينا".
لماذا لا نصدق؟
يبدو أمر التعلم أكبر من كونه تناقلا للمعرفة أو تمهيدا للوظيفة فيما بعد، وأن الأمر رحلة تفاعلية بين طرفيها: الأستاذ والطالب، وبين الإنسان نفسه: عقلا وشعورا، بين التلقي والتأمل، والسؤال والبحث. لكن ثمة سؤال للباحثة "سابرينا سميث"، أستاذ مساعد الفلسفة بجامعة "نيو هامبشير"، حول تعامل طلابها مع الفلسفة بوصفها شيئا منفصلا عن العلم، أو أقل منه، بما يؤثر على استيعاب العملية التعليمية على أنها معلومات تتفاعل مع الفلسفة، وليست استقبالا معلوماتيا جافا فقط.
ثم تفسر "سابرينا" ما تراه داعما لهذه الرؤية، فتقول إن قلة الوعي التاريخي عند الطلاب يُسبب ضعفا في الربط بين العلم والفلسفة، إذ إنهم "يميلون إلى التفكير بأن التقسيمات الصارمة في التخصصات تعكس انقسامات حادّة في العالم الحقيقيّ، وبالتالي لا يمكنهم تقدير كلٍّ من الفلسفة والعلم. فضلا عن أنّ التقسيم المزعوم بينهما هو اختراع بشري ديناميكيّ، فبعض الموضوعات التي تُصنّف الآن بكونها علميّة كانت تحت تسميات مختلفة، فعلم الفيزياء، الأكثر ارتباطا بالعلم كان سابقا يسمّى بالفلسفة الطبيعية"، لكن نطاق العلم "ضاق وتوسّع تبعا للمكان والوقت والسياقات الثقافية التي يُستخدم فيها".
أما السبب الثاني -من وجهة نظرها- فيتعلق بالنتائج الملموسة لكل من العلم الجامد والفلسفة التأملية، فالعلم يحل كل مشاكل العالم الحقيقي من الناحية التقنية، أما الفلسفة ليست كذلك بالنسبة لهم؛ لأنها لا تمنح النتائج الملموسة في تطور العالم المادي. لكنها تبرهن على خطأ تلك الرؤية بأن "التجارب الفكريّة الفلسفيّة لـ "ألبرت أينشتاين" جعلت مشروع "كاسيني" مُمكن الحدوث، ومنطق "أرسطو" هو أساس علم الحاسوب" فعمل الفلاسفة التأملي كان يضع الأسئلة التي يتحرك منها الاستطلاع، ومن ثم تبرز من خلفه النتيجة، "فطالما كانت الفلسفة موجودة بهدوء خلف العمل العلميّ".
هذا ما يؤكده "ريتشارد إنغرام" حين يقول إن الغاية النهائية من المدارس والجامعات تتمثل في زيادة معدل النمو الاقتصادي، أو مساعدة الحكومة للفوز في الانتخابات، كما يعلّق "زيجمونت باومان" على هذا بأن التاريخ القديم والفن والفلسفة، وما إلى ذلك من المجالات التي تزعم أنها تعزز التنمية الشخصية لا المصالح الاقتصادية والسياسية، قلّما تضيف إلى أرقام النمو ومؤشرات القدرة التنافسي، وهو الأمر الذي أرجعه لطبيعة الواقع الحالية، وأن كل شيء لا يثبت نفعه المادي عبارة عن صفقة خاسرة، فالتعليم في النهاية هو "تعليم وظيفي لخدمة النظام السائد".
اضافةتعليق
التعليقات