مع هذه الأيام المفجعة يتجدد في وجدان الأمة الإسلامية ذكرى عظيمة تفوق حدود الزمان والمكان. إنها ليست مجرد أيام حزن وبكاء، بل هي لحظات فارقة تحمل في طياتها أعمق المعاني الفلسفية للإصلاح والتضحية والفداء. وفي غمرة هذه الأيام، تتجلى عظمة العشرة الأولى من محرم بشكل خاص، لتبلغ ذروتها في يوم عاشوراء، حيث امتزج الدم بالرسالة، وارتقى الشهداء بأسمى قيم الإنسانية.
إن ما يميز هذه الأيام، ويجعلها محط تأمل عميق، هو استحضارنا لصرخة الإمام الحسين بن علي (عليهما السلام): "إنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي." هذه الكلمات ليست مجرد شعار، بل هي بيان فلسفي عميق يختزل جوهر النهضة الحسينية. لقد كان الإمام الحسين، بوعيه الثاقب وإدراكه للمنحدر الذي انزلقت إليه الأمة، يرى بوضوح أن الفساد قد استشرى، وأن الانحراف عن مسار النبوة قد بلغ أشده. لم يكن خروجه طلبًا لسلطة أو جاه، بل كان استجابة لنداء الضمير، وتحقيقًا لواجب إلهي وإنساني لإعادة الأمة إلى جادة الصواب.
لقد تجسد مفهوم الإصلاح لدى الإمام الحسين في أبهى صوره. فطلب الإصلاح لم يكن مجرد دعوة نظرية، بل كان فعلاً شاملاً يقتضي المواجهة والتضحية. إنه إصلاح لا يقف عند حدود الشعارات اللفظية، بل يمتد ليشمل الجوانب العقائدية والأخلاقية والاجتماعية والسياسية. لقد أراد الإمام الحسين أن يعيد تعريف مفهوم الخلافة الراشدة، وأن يؤكد على أن السلطة الحقيقية تكمن في خدمة الأمة، وإقامة العدل، ونصرة المظلوم، لا في التسلط والتجبر.
وفي هذه الأيام العصيبة التي تمر بها أمتنا اليوم، يزداد طلب الإصلاح إلحاحًا وضرورة. فإذا نظرنا إلى واقعنا المعاصر، نجد أن التحديات الجسام تحيط بنا من كل جانب: الفساد المستشري، الظلم المنتشر، التفرقة التي تمزق أوصال الأمة، واليأس الذي يتسلل إلى النفوس.
إن هذه الظواهر هي ذاتها التي حاربها الإمام الحسين، وإن ما نحتاجه اليوم هو استلهام روحه الإصلاحية، وتطبيق منهجه العملي. إن التعبير عن طلب الإصلاح في أيام محرم، خاصة العشرة الأولى، ليس مجرد تقليد أو طقس، بل هو تجديد للعهد مع مبادئ كربلاء. إنه دعوة لكل فرد في هذه الأمة أن يكون شريكًا في عملية الإصلاح، كلٌ في موقعه ودوره.
فالمعلم في مدرسته، والطبيب في عيادته، والمهندس في مشروعه، والعامل في مصنعه، والسياسي في منصبه، إنه اصلاح للنفوس والأرواح، إنها قضية عظيمة وكلٌ يستطيع أن يكون مصلحًا إذا استلهم قيم الحسين.
وقد استحضر هذا المقطع من دعاء كميل حيث قال فيه أمير المؤمنين (عليه السلام)
"وقد أتيتك يا إلهي بعدَ تَقصيري وإسرافي على نفسي معتذرًا نادمًا مُنيبا"؛ منيبًا أي راجعا فلنحاول الرجوع الذي فيه نتقدم فهذا شهر وموسم الرجوع لتكن أيام محرم وليكن يوم عاشوراء، نقطة تحول في حياتنا. لنرفع رؤوسنا عاليًا، ولنهتف بصوت الحسين: "إنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي". ولنعمل جاهدين، كلٌ في مجاله، لتحويل هذه الصرخة الخالدة إلى واقع ملموس، حتى تعود لأمتنا عزتها ومجدها، وتنهض من كبوتها، محققة رسالة الإمام الحسين، ومضيئة دروب الأجيال القادمة.
اضافةتعليق
التعليقات