البكاء على الحسين ليس عاطفةً معزولة، بل عبادةٌ تُهذّب الروح وتغسل شوائب القلب. الدمع هنا لغةُ ولاء، وإعلانُ رفضٍ للظلم، وتربيةٌ للرحمة. فإذا جفّت المآقي بعد الموسم، فليس معنى ذلك أن القلب قسا، بل إنّ علينا أن نُغذّي الذاكرة الروحية بمصادرها: قراءة المقتل بتوقير، مشاهدة مجالسٍ موثوقة، تلاوة زيارة عاشوراء بخشوع، واستحضار أنّ الدمع قلَّ أو كثُر إنما هو آثار نداءٍ سمعه القلب فأجاب.
ولتكن كل الشعائر ذات أثر على حياتنا فإن كان المشي تعبًا في الطريق، فليكن مشيًا إلى الصلة: صلة رحمٍ قُطعت، أو زيارة مريضٍ أهملناه.
إن كانت الخدمة سقايةً وإطعامًا، فلتَصِر عادةَ كرمٍ لجارٍ محتاج أو طالب حاجة، ومن لا يُزكي أو يُخمس أيضا تكن ترويضا لنفسهِ الأمارة بالمنع. هكذا تتحوّل الشعائر إلى أخلاق، ويصير الموسم مدرسةً لا مهرجانًا وقتيّ.
ولكي لا يكون الكلام أمنية، أو عدم معرفة بتنظيم اليوم فهنالك الكثير من البرامج العبادية التي نستطيع أن نواضب عليها إليكِ كالاوراد اليومية.
آيةٌ من القرآن مع ربطٍ بمعنى كربلاء (كالصدق والصبر والوفاء). دقيقة صمتٍ للتأمّل: “ما موقفُ الحسين في قراري القادم؟”.
قراءة زيارة عاشوراء بنيّة الثبات، مع صدقةٍ ولو قليلة قبلها أو بعدها. مجلس عائليّ قصير: فقرة من سيرة أهل البيت، دعاء قصير. امتناعٌ عن غيبةٍ واحدةٍ كل يوم “وفاءً لدم الحسين”.
وأهمها تفعيل خلقُ الحِلم حين يستحق الغضب؛ فهذا من أجمل انتصارات كربلاء، فكربلاء بوصلةٌ في المواقف الصغيرة ليس كلُّ أحدٍ يُبتلى بسلطة يزيد، لكنّ كلّ أحدٍ منا يُبتلى بقدرٍ منها في داخله أو حوله:
موظّفٌ يملك أن يغشّ أو يصدق؛ تاجرٌ بين ربحٍ مشبوهٍ ورزقٍ نظيف؛ طالبٌ بين شهرةٍ جوفاء وعلمٍ رصين؛ أمٌّ أو أبٌ بين تربيةٍ على المظاهر وتربيةٍ على القيم.
في هذه اللحظات تتجلّى أرض الطفوف من جديد ونستطيع أن نطبق الكلمة التي ترددها "ياليتنا كنا معكم" فالنختر صفَّ الحسين فبهِ سنربحُ أنفسنا، ولنحاول أن نختبر أنفسنا بعد انفضاض الجمع:
هل أصبحنا أصدق لسانًا؟
هل زاد حِلمُنا على من يُخالفنا؟
هل اقتربنا خطوةً من فقيرٍ أو يتيم؟
إن أجبتَ بنعم، فقد حملتَ من كربلاء زادًا؛ وإن وجدتَ فتورًا، فاستعن بالله على محاولةٍ جديدة؛ فالثباتُ يُؤخذ بالمحاولات الصادقة، لا بالادّعاءات العريضة.
نستنتج من كل ما تقدمنا به أنه قد انتهى موسم الحسين ظاهرا وبدأ موسمُ القلوب، فمن عرف الطريق عاد إليه كلَّ صباح. ومن ذاق المعنى لم يُطِق فراقه. فلتكن بيوتنا موكبًا صغيرًا، وقلوبنا رُبىً تُظلّلها راياتُ الوفاء. ولنجعل من أيامنا كلّها عاشوراء، ومن أرضنا كلّها كربلاء لا نزهد في الدمع إذا حضر، ولا نيأس إذا جفّ، نُصلح النيّات، ونعود إلى الذكر مرّةً بعد مرّة؛ فالربّ يُحبّ العود، والحسين يُحبّ من يحبّ.
السلام عليك يا أبا عبد الله، ما بقيتُ وبقي الليل والنهار، وما بقي البكاء في عينٍ تذكّرتك، والعملُ في يدٍ عاهدتك، والعهدُ في قلبٍ لا ينسى.
اضافةتعليق
التعليقات