في قلب العراق حيث تلامس الروح السماء، تتجلى كل عام ملحمة إنسانية عظيمة تُختصر في كلمة واحدة: الوفاء إنها ذكرى الأربعينية، ذكرى استشهاد الإمام الحسين بن علي (عليه السلام) في كربلاء. وفي هذا المحراب الروحي العظيم، يصبح "الوفاء" ليس مجرد مفهوم، بل واقعًا حيًا يمشي على قدمين، يتنفس، ويعطي بلا حدود، ويجسده بكل معاني السمو متطوعو خدمة زوار الإمام الحسين (عليه السلام). فهم بحق الأكثر وفاءً لزواره، وورثة حقيقية لروح الثورة الحسينية التي قامت على التضحية والفداء في سبيل المبادئ والقيم.
الأربعينية: تجسيد أسمى معاني الوفاء
وفاء التاريخ والذاكرة: الأربعينية هي تذكرة سنوية حية بحدث غير مجرى التاريخ. إنها وفاء للأجيال المتعاقبة لذكرى إمام ضحى بنفسه وأهل بيته وأصحابه في سبيل إعلاء كلمة الحق ومنع الظلم والانحراف عن دين الله. إنها إصرار على ألا تموت هذه الذكرى، وألا تُنسى الدروس والعبر.
وفاء للحسين (ع) ورسالته: الزحف المليوني نحو كربلاء، رغم كل الصعاب والتحديات، هو تعبير مادي ملموس عن وفاء قلوب المؤمنين للإمام الحسين (ع) ولقضيته العادلة. إنه وفاء لندائه الخالد: "هَلْ مِن نَاصِرٍ يَنصُرُنِي؟". الزائر يقطع المسافات الشاسعة، يتحمل المشقة، ليقول: "لبيك يا حسين"، ليبقى الوفاء حيًا بعد أربعة عشر قرنًا.
وفاء للعهد والارتباط الروحي: زيارة الأربعين هي تجديد للعهد مع الإمام الحسين (ع) ومع مبادئه السامية. إنها إعلان عن استمرار الارتباط الروحي والفكري به، والتزام بمنهجه في مواجهة الظلم والاستبداد بالحق والشجاعة.
متطوعو الزوار: الأكثر وفاءً لزواره (ع)
في خضم هذا البحر البشري الهائل، الذي يتحرك بإيمان عميق نحو كربلاء المقدسة، يبرز رجال ونساء وأطفال يجسدون الوفاء في أرقى صوره العملية والإنسانية. إنهم متطوعو خدمة زوار الإمام الحسين (ع)وهم بحق الأكثر وفاءً لزواره، لأنهم:
1.الوفاء بالتضحية والعطاء: يتخلون عن راحتهم وأوقاتهم الثمينة وأموالهم، بل ويعرضون أنفسهم أحيانًا للمخاطر، لخدمة الزائر. العمل لساعات متواصلة تحت الشمس أو المطر أو البرد، النوم القليل، الجهد البدني المضني – كل هذا يقدمونه بابتسامة وقلب مفعم بالإيمان والرغبة في الأجر. تضحيتهم هي صدى لتضحية أصحاب الحسين (ع).
2. الوفاء بنداء الحاجة: كأنهم يسمعون صرخة كل زائر متعب، عطشان، جائع، أو تائه. يهرعون لتقديم الماء والطعام (المائدة الحسينية)، الإسعافات الأولية، التوجيه والإرشاد، المساعدة في حمل المتاع أو الأطفال أو كبار السن، وحتى تنظيف الطرق وتأمينها. وفاؤهم هو الاستجابة الفورية والعملية لاحتياجات "ضيوف الحسين".
3. الوفاء بقيم الحسين (ع): خدمتهم ليست مجرد أعمال لوجستية. إنها ترجمة عملية لقيم الإمام الحسين (ع): الإيثار، الكرم، التواضع، الأخوة الإنسانية، التعاون، واحترام كرامة الإنسان. المتطوع يخدم الجميع بغض النظر عن جنسيتهم أو مذهبهم أو عرقهم، متجردًا من أي مصلحة، مقتديًا بأخلاق أهل البيت (ع).
4.الوفاء بروح الجماعة والتكاتف: يعمل المتطوعون كخلية نحل منظمة، في تناغم مدهش. يتوزعون المهام (التموين، الصحة، الأمن، التنظيف، الاستقبال والإرشاد) بتلقائية وتعاون نادر. هذا التنظيم الذاتي العفوي، القائم على الإيمان والإرادة الحرة، هو دليل عميق على وفائهم للقضية المشتركة ونجاح المسيرة.
5. الوفاء بنشر ثقافة المحبة والإنسانية: بابتسامتهم الدائمة، كلماتهم الطيبة، تعاملهم الحاني، وصبرهم الجميل، يصنع المتطوعون أجواءً من المحبة والإخاء. هم سفراء حقيقيون لرسالة كربلاء الإنسانية، يجسدون الوجه المشرق للإسلام الذي يدعو للرحمة والتكافل. وفاؤهم ينشر ثقافة الخير.
الخيط الرابط بين الوفائين:
الأربعينية، بجوهرها، هي قصة وفاء متبادل:
وفاء الإمام الحسين (ع) لله ولدينه ولرسالته حتى آخر قطرة دم.
وفاء الزائر للإمام الحسين (ع) بقطع المسافات وتجديد العهد.
وفاء المتطوع للزائر، الذي هو وفاء غير مباشر للإمام الحسين (ع) نفسه. فالزائر ضيف الحسين، وخدمة ضيفه هي خدمة له.
مدرسة الوفاء الخالدة:
أربعينية الإمام الحسين (ع) ليست مجرد مناسبة دينية، بل هي مدرسة إنسانية عظيمة تخرج فيها وتتخرج أجيال على معنى الوفاء الحقيقي.
وفي صفوف هذه المدرسة، يتبوأ متطوعو خدمة زوار أبي عبد الله الحسين (ع)مكانة رفيعة. إنهم بجهدهم وعطائهم وتضحيتهم وإخلاصهم، يقدمون أبلغ تفسير عملي لسمو معاني الوفاء التي تجسدها الأربعينية.
هم اليد الحانية، والقلب النابض، والروح التي تجعل من مسيرة الملايين إلى كربلاء ليست فقط رحلة جسدية، بل رحلة قلوب عامرة بالإيمان ومشاعر مفعمة بالولاء والوفاء لسيد الشهداء وإمام المستضعفين. فهم حقًا، بتجردهم وعطائهم، الأكثر وفاءً لزواره.
اضافةتعليق
التعليقات