كثيراً ما نجد أنفسنا غارقين في سجالات حادة مع الآخرين، ندفع بكل قوة لنثبت وجهة نظرنا وندحض رأيهم، لنكتشف في النهاية أننا كنا نتحدث عن نفس الشيء ولكن بلغات مختلفة. هذه المفارقة ليست نادرة، بل هي واحدة من أكثر أسباب الخلافات شيوعاً بين البشر، على مستوى الأفراد والجماعات. إنها إشكالية سوء الفهم وعدم الاستقصاء الكافي، التي تحول القواسم المشتركة إلى خنادق للصراع.
الفجوة بين القصد والتعبير:
لا يكمن التحدي في اختلاف آرائنا فحسب، بل في الهوة بين ما نعنيه حقاً وما نعبر عنه. كل إنسان يحمل في داخله نسخة فريدة من التجارب والثقافة والمفردات التي يصوغ منها كلماته. عندما نعبر عن رأي، فإننا نقدم "ملخصاً" مكثفاً لعالمنا الداخلي. أما المستمع، فيفكك هذا الملخص باستخدام مفاتيح عالمه الداخلي هو. هذه العملية المعقدة هي أرض خصبة لسوء الفهم. قد نستخدم مصطلحاً يحمل لدينا دلالة إيجابية، لكنه يحمل لدى الطرف الآخر دلالة سلبية، فينطلق النقاش من منطلقين مختلفين تماماً دون أن ندري.
لعبة "الانتصار" مقابل "الفهم":
في خضم النقاش، يتحول الهدف لدى الكثيرين من السعي لفهم الآخر إلى السعي للانتصار عليه. تصبح المحادثة معركة يجب كسبها، وليس جسراً يجب بناؤه. هذه العقلية العدائية تجعلنا نستمع فقط لنكتشف ثغرات في حجة الخصم نتفادى فيها، بدلاً من الاستمع لفهم جوهر فكرته والإطار الذي جاءت منه. نحن نركز على الاختلافات الصغيرة ونغفل عن المساحات الشاسعة من الاتفاق التي يمكن أن تشكل أرضية حوار حقيقية.
اكتشاف الاتفاق الخفي:
عندما نتمهل ونسأل، نكتشف مفاجآت مذهلة. غالباً ما نجد أننا نتفق على المبادئ الكبرى (العدالة، الحرية، الكرامة، الأمان) ولكننا نختلف على التطبيق أو الأولويات. قد نكتشف أننا نريد نفس الهدف لكننا نختلف على طريق الوصول إليه. هذا الاكتشاف لا يلغي الخلاف تماماً، ولكنه يضعه في إطاره الصحيح: خلاف على الوسائل وليس الغايات، على التفاصيل وليس الجوهر. هذه النقلة النوعية تخفف من حدة الاستقطاب وتجعل النقاش أكثر موضوعية وإنتاجية.
في عالم يبدو فيه أن الفجوات تتعمق والخلافات تتسع، قد تكون أقوى أدواتنا هي الأكثر تواضعاً: فضول حقيقي لفهم الآخر، وشجاعة لمراجعة مواقفنا، وصبر على استيضاح ما خفي علينا.
لن تزول كل خلافاتنا، فهناك حقاً آراء متباينة، ولكن بتطبيق هذه الآلية سنتجنب إضاعة وقتنا وطاقتنا في معارك وهمية كان يمكن أن تتحول إلى نقاط اتفاق وتعاون. لنستوضح أكثر، فربما كنا متفقين أساساً، وربما، حتى لو اختلفنا، نخرج من الحوار بأعز ما يمكن أن يكسبه الإنسان: فهم أعمق ولاء أكثر إنسانية.
اضافةتعليق
التعليقات