حظي الإمام الصادق (عليه السلام) بمكانة مرموقة من حيث علو النسب، ومعالي خلاق، وغزارة العلم، وشموخ الموقع الإجتماعي، وقد نشأ في بيت آلنبي (صلى الله عليه وآله)، ومهبط الوحي، وفي ظروف حساسة، لكنه سخرها للمحافظة على الدين ونشئة المعارف الحقة، وفضح الأباطيل، وما دسته الدخلاء، وعلى رغم ما تفرد به اختلفت فيه الأقوال على رأيين.
الأول: رأي مدافع، يظهر على ألسن أولئك الذين يدعون أنهم من أتباع الإمام ومواليه، وشيعته، وفحواها:
أن الإمام الصادق توفرت له ظروف لم تتوفر لإمام من قبله ولا من بعده، استطاع أن يستغلها لنشر أصول الدين وأحكامه، وأن يفتح أبواب مجلسه للادب والعلم، وتصدى للتدريس، ونشر المعارف، وقد اشترك في مجلسه آلاف، يتلقون عنه الفقه والحديث والتفسير وتصدى لمناقشة المنتمين للأفكار الدخيلة، والرد على الزنادقة والماديين والملحدين، وقارع أصحاب الملل والنحل بصورة مباشرة عن طريق طلابه، وقيل روى عنه أربعة آلاف راوٍ.
وقالوا أنه حرص على المشروع العلمي، واضطر على عدم التدخل في سياسة، فلم يتبنّى أي عمل سياسي، بل أكثر من ذلك أنه سلك طريقاً يتماشى مع السلطة. ويبدو أن هذا الرأي لم يكن صحيحا بتمامه، لأن الإمام لم يساير السلطة علی حساب المسلمين، بل لم يسايرهم، وإذا حصل شيء من هذا القبيل فهو لمصلحتهم ولمصلحة الدين.
الثاني: هو الرأى الذى ذهب إليه من لا يعترف بامامته، وهي نظرة متحاملة على الإمام الصادق (عليه السلام)، وتتهمه بعدم الاهتمام بأمور المسلمين. أصابهم من ظلم، لأن المجتمع وقت ذاك كان يضج بالمظالم الطبقية والطغيان السياسي، والسيطرة المقيتة على أموال الناس، وأنفسهم وأعراضهم بل على عقولهم وأفكارهم. ويرون أن من واجب الإمام الصادق حينها هو مقارعة الظلم والطغيان ونصرة المظلوم.
يبدو أن هذا الرأي لا يخلو من مغالطة كبيرة، لأن الإمام الصادق لم يرض بالظلم، ولكنه يعاني من قلة الناصر الصادق، فسلك الطريق الأكبر وهو مقارعة الظلم من أصله وهو الفكر الضال وتصحيح مسار الأمة بالوعي الصحيح. وهناك رأي ثالث:
هو أن الإمام الصادق (عليه السلام) عارف بوظيفته وبأهل زمانه، وطموحاتهم في - حب الدنيا والسلطان ، ويعلم أن الانحراف الفكري والابتعاد عن الإسلام كان هو الخطر الأكبر، وإذا تم تصحيح أفكار الناس وعقائدهم سوف يرتفع الظلم أو يكشف إلى الملأ على أقل تقدير، بالإضافة إلى قساوة الحكام على من خالفهم مباشرة، بل اجتثاثه واجهاض نهضته، فهو لم يسكت عن الظلم حفاظاً على حياته، بل لهدف آخر كما هو واضح، بل لم يسكت عن الظلم، وقارعه بطريقته الخاصة التي لا يألفها إلا من عرفها وعرف أهدافها وآثارها الايجابية.
وهذا يعني أن لكل إمام ظروفه الخاصة، وكل إمام يقوم بدوره وبحسب مقتضيات الزمان والمكان ظروفهما من حيث توجه السلطات ووعي الناس ومصداقيتهم.
عاش الإمام (عليه السلام) في ظروف سياسية مضطربة ظالمة، سيما على أهل البيت. وذلك بسبب تسلط الحزب الأموي على السلطة، والذي كان يضمر العداء لبني هاشم منذ عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ولم يدخلوا الإسلام إلا بعد فتح مكة كان دخلوهم مرغمين، وكان النبي (صلى الله عليه وآله) يعلم بأطماعهم بالسلطان بل بالخلافة، حيث نبه على عدم السماح لهم بتولي الخلافة خصوصاً باسم الإسلام.
فعمد الحزب الأموي على عزل أهل البيت (عليه السلام) والصحابة، ثم شرعوا بتشويه الدين بالتحريف والدس بما يتماشى مع أهواءهم، ويحفظ سلطانهم، وأوجدوا الفرق الضالة كالمجسة، والحرورية والكرامية وغيرها من الفرق الكلامية التي غايتها إيجاد الفرقة والفتنة في صفوف المسلمين، بل والقضاء على الإسلام المحمدي الأصيل. وأسسوا أفكاراً مغايرة للإسلام تماماً، وشبّهوا للناس أن ما يصدر عن الخلافة الأموية سواء من قادة الحزب الأموي أو من وعاض السلاطين هو الدين المحمدي الحق، وقد انطلت هذه الفكرة على الجهال والغافلين، وسارع إليها أصحاب الأطماع والانتهازيين، هذا من جانب.
عندما انكسرت شوكة دولة بني أمية، قام الإمام الباقر (عليه السلام) ثم تبعه الإمام الصادق بنشر العلوم الدينية وإحياء الإسلام بعد أن أمات وحيه الأمويون.
وكان يوم حلقة درسه ما يزيد على ألفين بل أكثر من كبار العلماء ين في الحديث والفقه والتفسير والحكمة، ومن كافة الأقطار وذلك لرفع عنه، وعدم الحذر منه، فقدم إليه طلاب العلم من الكوفة وواسط والبصرة والشام، ونقل عنه الحديث كبار العلماء، ونالت مدرسته شهرت عظيمة. فقد سعى الإمام الصادق لإكمال ما بدأ آباءه وأجداده فأحيا مدرسة المدينة مدرسة أجداده وآبائه، وبعد أن كثر فيها وعاض السلاطين والمنحرفين الذين يستقون علومهم من غير طريقها الصحيح، وهذا يعني ان كل إمام قام بدوره عندما سنحت الفرصة للأئمة (عليه السلام)، وكل بحسب أسلوبه مقتضیات زمانه ومكانه. وقد سنحت الفرصة للإمام الصادق أكثر من غيره فأسس الأصول وفرع عليها، ونطق بما هو صحيح وبصورة علنية حتى أصبح هو قائد تلك الحركة الفكرية، فأخذ ينشر الحديث والتفسير وبقية العلوم.
وقال المفيد في حقه: (نقل عنه من العلوم ما سارت به الركبان، وانتشر ذكره في البلدان، ولم ينقل عن أحد من أهل بيته من العلماء ما نقل عنه، ولا لقي أحد منهم من أهل الآثار ونقلة الأخبار، ولا نقلوا عنهم كما نقلوا عن أبـــي عبد الله، فإن أصحاب الحديث قد جمعوا أسماء الرواة عنه من الثقات على اختلافهم في الآراء والمقالات، فكانوا أربعة آلاف رجل). وأن هذا العدد من الثقات يدل على الحضور الواسع في حلقات درسه، ويبدو أن من يتلقى عنه أكثر من ذلك، لأن الثقات بعض من الحضور، وان حضور هذا العدد وإذعانهم له على اختلاف مشاربهم، دليل على فكره الثاقب وسعة علمه، وعلو مكانته من غير منازع.
المهمة الأكبر: اعداد العلماء والمفكرين
سعى الإمام الصادق (عليه السلام) بنظرته الثاقبة، وعلمه الغزير إلى إعداد جمع من أهل العلم والفضل والمفكرين في مختلف العلوم، وعلى نطاق واسع كالتفسير وعلوم القرآن والفقه ومصادره، والحديث والكلام والفلسفة، بل حتى العلوم الطبيعية مثل الكيمياء والرياضيات والفلك، والعلوم الغريبة كعلم الجفر .
وعليه يمكن وصف مدرسة الإمام الصادق بالجامعة الإسلامية الكبيرة لأنها تضم مختلف العلوم، وتخرج منها جهابذة كبار، ومفكرين عظام، وكانت أسمائهم لا مع وقد أحصاهم البعض بأربعة آلاف رجل فقد صنف الحافظ أبو العباس من عقده كتابا جمع فيه رجال الإمام الصادق ورواة حديثه وأنهاهم إلى أربعة آلاف. ولم تُحصر الرواية عن الإمام الصادق (عليه السلام)بالرواة الشيعية، بل هناك من الرواة من سائر المذاهب الإسلامية.ومنا هنا يتبين لنا الدور القيادي الريادي للإمام لم ينحصر في علم الفقه والكلام، بل شمل مختلف العلوم أيضاً وتركك أرثاً عظيماً في كافة المجالات.
____________________________
اضافةتعليق
التعليقات