تمثل الثقة النسيج الخفي الذي يمسك بكيان المجتمعات الإنسانية، والبنيان الروحي الذي تقوم عليه علاقات الأفراد، فهي ليست مجرد قيمة أخلاقية ثانوية، بل هي ضرورة عيش لا غنى عنها. إذ أن الثقة هي جسر الإنسان إلى الآخر، وهي الطريق الى احترام العقل وفن التعامل مع الآخر. إن عشنا بلا ثقة في أحد، تحوّلت الحياة إلى عبءٍ خانق وجحيمٍ مستمر، فالإنسان لا يستطيع أن يلغي ثقته بالجميع. هناك دائمًا أشخاص يستحقون أن نمنحهم مساحة من الاطمئنان، حتى وإن جُرحنا من آخرين. و بعض المواقف لا تعكس الحقيقة بقدر ما تعبّر عن صدمةٍ عابرة أو ردّة فعلٍ مؤقتة. ولا يمكن للمجتمع أن يعيش بلا ثقة؛ فهي الهواء الذي تتنفسه العلاقات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. فالتعاملات التجارية تقوم على الائتمان، والعلاقات الأسرية تقوم على الوئام والطمأنينة، والحكم الرشيد يقوم على المصداقية. وفي هذا السياق، يصف الإمام علي (عليه السلام) أساس التعامل بقوله: "أَصْلُ الْعَقْلِ التَّوَدُّدُ إِلَى النَّاسِ". فالعقلانية هنا لا تنفصل عن القدرة على بناء جسور المودة والثقة مع الآخرين، فهي ليست بسذاجة بل حكمة عملية تدرك أن التعاون والسلام الاجتماعي هما شرطان للبقاء والازدهار.
و كما هو معروف إن المرء لن ينال ما يحب حتى يصبر على كثير مما يكره. حيث نرى أن الثقة ليست أمراً مفروغاً منه، بل هي بناء متبادل يتطلب جهداً مستمراً، من خلال إظهار العذر والشفافية. فبدون هذه الثقة المتبادلة، يتحول المجتمع إلى ساحة من الشك والخوف، وتتعطل ضرورات العيش من أمنٍ واستقرارٍ وتعاون، فالثقة مطلوبة بكل مراحل الانسان حتى في أهون الأمور. وإلا كيف يتعامل الانسان مع نظيره الأنسان وهو ليس أهلا لها. حينها، يتحول العالم إلى ما يشبه الجحيم، حيث يسود الشك ويذبل الأمل، وتنقلب الثقة إلى خوفٍ مرير. في هذه اللحظات، يصبح الإنسان في اختبار حقيقي لأصالة قيمه وإيمانه.
وفي خضم هذا الألم وخوف المؤمن من فقد الثقة حيث تتهاوى الثقة في كل شيءٍ دنيوي. يقدم الإمام (علي عليه السلام) رؤية ثاقبة، عن الشعور بعدم الثقة بالآخر بل يقدم له إطاراً معنوياً يتجاوز به الإنسان محنته. يقول عليه السلام:" مَنْ وَثِقَ بِاللهِ أَتَاهُ الْيَقِينُ".
وهنا يبرز التوازن العبقري في فكر الإمام علي (عليه السلام): فهو ربط الثقة بالآخرين مقرونة بثقة الفرد برب العباد وحكمته. و بما أن رحلة الإنسان مع الثقة تمر بمحطتين أساسيتين: محطة "ضرورات الحياة"، حيث تغدو الثقة بالآخرين أساسًا للبناء والتعاون، ثم محطة" الفقدان المرير للثقة"، حين تنهار كل الثقات والخوف من الانغماس مع الآخر بكافة التعاملات، ولا يبقى سوى يقين واحد خالد: الثقة بحكمة الله وعدله والأتگال على الله.
فالثقة في الناس ضرورة اجتماعية لا غنى عنها، ولكنها يجب أن تكون ثقة مشروطة بالحكمة والتجربة، ومتوازنة مع الثقة المطلقة في الله وحده. فالثقة في الخالق هي التي تمنح الإنسان الشجاعة ليخاطر ببناء الثقة في المخلوق، لأن خيبة الأمل من البشر لن تدمره طالما أن مرتكزه الأساسي هو الله. ومن هنا رسم الإمام علي (عليه السلام) خريطة طريق لهذه الرحلة الشاقة في التعامل مع الآخر، تعلّمنا أن نبني جسوراً من الثقة مع الناس بحكمة، دون أن نغفل عن أن نرسي سفينتنا على شاطئ اليقين بالله. فالثقة الأرضية قد تهتز، وقد نخسر من نحب، وقد نمر بجحيم الفقدان، ولكن من يوثق بالله فإنه يأته اليقين، ليجد حتى في قلب الجحيم بذرة أمل، ونور ثقة لا ينطفئ.
التوازن الحكيم بين الثقة في الناس والثقة في الله.
لا ننكر بعض طبيعة البشر وما يعتريهم من نقص وضعف، ولذلك يجب الحذّر من السذاجة في منح الثقة المطلقة لكل من يُظهر المودّة. هذه الكلمات ليست دعوة إلى الانعزال عن الناس أو الانغماس في التشاؤم، بل هي نداء عميق للوعي والتمييز. فالحياة لا تقوم بلا ثقة، إذ لا يمكن للإنسان أن يعيش في عزلة دائمة أو في ريبة مستمرة. لكنّ الثقة إذا تحولت إلى غفلة عمياء صارت بابًا للخذلان والخيبة. ومن هنا تأتي الحاجة إلى التوازن: ثقة عقلانية تحفظ كرامة الإنسان، مقرونة بثقة عليا بالله سبحانه، فهو الملجأ الذي لا يخيّب، والحصن الذي لا ينهدم.
إن جوهر هذا التوجيه هو بناء إنسان يعرف أن البشر مهما بلغوا من محبة ووفاء يظلون أسرى أهوائهم وظروفهم، بينما يبقى الله وحده الثابت الذي لا يتغير. فالثقة بالناس ضرورة للعيش المشترك، أما الثقة بالله فهي ضرورة للبقاء الروحي والسلام الداخلي.
ومن جمع بينهما عاش متزنًا: منفتحًا على الآخرين دون أن يذوب فيهم، ومتوكلًا على الله دون أن يترك الأخذ بالأسباب. تبقى الثقة في الله هي الملجأ الأخير ومصدر اليقين الذي لا يتزعزع.
اضافةتعليق
التعليقات