مدينة جميلة، جدرانها القصب، لاتملك حجر ولا رخص، كوخ مضاء ببعض الشموع، مواشي تسرح في الارض، اشجار متشابكة وانهار تجري، تمشي بخطوات ثابتة وتدندن بصوتها الريفي العذب، تحمل جرة على كتفها بلون التراب، تقطر ماء.. ينساب على جبينها الاسمر.
تخطو برفق بين سنابل القمح، وتتمايل مع الرياح كسنبلة، تغازلها الشمس فتزيد من حرارتها لتجعل لونها مميزا، اطراف ثوبها الاسود الطويل يعلق بين اشواك الاشجار واغصان الورد، عصبتها على راسها كعصبة الياس على العود، نظراتها العنيدة تمتد الى سعف النخيل، فيقع الرطب جريح، تلتقطها بابتسامة وشغف وبعض مظاهر الكبرياء، تمحو خطواتها اذيال ثوبها الريفي، تغطي بشرتها السمراء بشالها الاسود لتبرز عينها.
تحدق لجمال الطبيعة، بين جفونها ليل هادئ.. ينام باطمئنان.. تارة يصمد وتارة ينساب مع اول دمعة عابرة، انفاسها هادئة دافئة كأنها دخان طابون اخمدت ناره منذ قليل.
لا يكاد الليل يخطه الشيب، ويتسلل القليل من الضوء عبر ثقب الكوخ، سمراء بعيون غجرية تخيط العباءة الرجالية لتبيعها في الصباح الباكر، تجلس على فراش ريفي، تحب ان تعمل وهي تستمع اصوات حيواناتها المختلفة، كان اجمل حلم يراودها من الصغر ان تتعلم الكتابة والقراءة، حدثت نفسها في تلك اللحظات فلا تجرأ ان تقول لاحد في القرية عن حلمها، اختلفت عن بنات القرية بطموحها وافكارها، بعد ما عرفت بأن مصيرها خادمة في بيت الكبير الرجل الغني الذي يملك القرية دفنت احلامها في صدرها.
تبتعد القرية عن المدينة مسافة بعيدة تصل الى يومان او اكثر، ابناء القرية يعيشون هنا بسعادة وحب، فرحهم واحد وحزنهم واحد، جامع واحد يقع في منتصف القرية والدكان بيت اسماعيل، لا يوجد مشفى او طبيب، المشفى هنا بيت الحاج كريم يعالج المرضى بالأعشاب، المعلم القرآني الشيخ مسعد خادم الجامع يعلم الاطفال القراءة القرآنية ويأخذ الاجر من طيبات الزرع والخضار. الجدة حكيمة هي القابلة المأذونة لقرية مها لا اكذب ان قلت لكم ان شباب القرية جاءوا على يدها، الاب يعمل ساقي الزرع في بستان ((الكبير)) والام تخدم العائلة، اما مها فتعمل (طباخة) وفي خياطة العبي الرجالية المطرزة، كل صباح يتزاورون الفلاحين ويشربون الشاي بين المزارع الخضراء التي تفوح برائحة العشب والزهور العطرة، فراشات بالون الصباح تحلق، زقزقة العصافير وهي تراقص الاغصان، صوت خرير الماء الجاري، ويندمج معه صوت مها وهي تقطف التفاح، سعادتها أن تجلس تحت ظل شجرة التفاح، وتفرش عباءتها بين الحشائش الخضراء المبللة بماء السقي، ترعى قطيع الغنم، وبيدها عصا، تهش على الغنم وتضرب حظها العاثر. وتعمل الأعمال الشاقة بدون كلل ولا ملل، تحضر العجين لتخبزه، وتقطع الحطب، تسقي الزرع، ومازال ((الكبير)) غير راضي عنها وعن اهلها وقد هددهم بالطرد والسجن ان لم يكن حصاد الارض جيدا هذا العام.
اخذت مها تعمل في البستان ليل ونهار لتنقذ عائلتها من شر ((الكبير)) الذي عرف عنه الظلم والاستبداد، لا يرحم أحدا لا كبير ولا صغير، يعشق المال، كل ما يريده جمع الاموال وشراء الاراضي من الفلاحين الفقراء..
مرت الايام واقترب الموسم
مها تنظر الى والدتها وهي تنحني لتنظف الدار وتلمع حذاء ((الكبير)) يسعر قلبها وتخمد انفاسها.. دخلت الى الغرفة وضربت نفسها، نثرت شعرها، ودموعها تسقط منها، ليس المرة الاولى التي ترى فيها حال أمها لكن هذه المرة كان حال أمها يختلف فقد طلب منها ان تلمع حذاءه بشالها اكثر من مرة..
خرج ((الكبير)) وصوته يرتفع في فناء البستان مخاطبا الفلاحين: اعملوا.. انتم هنا خدم وانا سيدكم... اثارها صوته، وقفت تنظر اليه من النافذة وعينها مملوءة بالحقد، رفعت يدها وطلبت من الله استجابة دعائها، رسمت خطة تنقذ فيها عائلتها..
اضافةتعليق
التعليقات