تمرُّ الأيام وتنقضي القرون، وتبقى بعض الذكريات نقيةً في صحائف الوجود، لا يطويها النسيان، ولا يبليها الاندثار. فكلُّ أمم الأرض كتبت تاريخها، فطوته رياح الزمن، إلا أمةً اصطفاها الله لتكون شاهدةً على الحق، حاملةً لرسالة الختام، محفوظةً في سجل الخلود بذكرى من هو أغلى من الروح، وأعز من الوجود، ذلك الحبيب المصطفى، سيدُ الأولين والآخرين، شفيعُ الأمم يوم العرصات، حبيبُ الله وخاتمُ رسله، محمدٌ (صلى الله عليه وآله)، من قال فيه عز وجل:
{وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ ۚ أَفَإِنْ مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ ۚ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا ۗ وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ}.
يا من حلق القلبُ في ملكوته، وهام الفؤادُ بذِكره، وملأ الدنيا نورًا وروحًا وريحانًا، فلم يكن مجرد بشرٍ سار على الأرض، بل كان القصيدة التي أنشدها الرحمن للوجود، فاهتزت لها جنات السماء، وبكت شوقًا إليها الأرض.
جئتَ والقلوبُ صخرةٌ صماء، فإذا بها بيدك تذوب رقةً وحنانًا. جئتَ والعالم غارقٌ في ظلماته، فإذا بنجم الهدى يشرق من بين جنبيك، فينير الدرب للبشرية إلى يوم الدين.
يا حبيبَ الله، من كانت عيناه تفيضان بحبٍّ لا ينضب لله، ثم لأمته، فكم مرغ وجهه الكريم في الترابِ يدعو ويستغفر لنا ونحن لم نُخلق بعد. فيا حبذا تلك الأيادي التي كانت تمسح على رأس اليتيم، وتطعم جائعًا، وتنصر مظلومًا،
يا حبذا ذلك القلب الذي وسِع العالمين برحمته، حتى قال فيه عز وجل:
{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}.
فكنتَ أشفقَ علينا من آبائنا وأمهاتنا، فكيف لنا أن نحيط بذكراك؟ وكيف لنا أن نكتب عن جمال روحك، وعظمة أخلاقك، ونور رسالتك؟
وإن مَن يريد ذِكر أوصافك، كمن يريد أن يشرب ماء البحر بقدحٍ صغير، أو كمن يحاول أن يُدخل قرص الشمس الذهبي من نافذةٍ ضيّقة، ولكننا نتأمل ولو خيطَ نورٍ من شمسك يلتفتُ لدارنا، لعلنا نكون بحق من أمتك المختارة،
إنه ذلك النبي العظيم الذي قال فيه ربُّه عز وجل:
{وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ}.
وفي وداعٍ يُهزّ القلب ويبني المستقبل، تعجز الحروف عن سرد لحظات الوداع الأخيرة، لأنها تؤلم قلوب محبيه، ولكنها كنزٌ يهدي طريق السائرين على خطاه، بل هي الركن الوثيق الذي يَقينا من لهيب الآخرة.
ففي تلك اللحظات الأخيرة، وقد علم سيدُ الخلق بقدومها، خشي على أمته من بعده، وحين أحسَّ (صلى الله عليه وآله) بأن الأجل قد اقترب، جمع أصحابه حوله، وودّعهم بوصيته الخالدة، التي كانت نورًا يهتدي به من بعده، وحبلًا ممتدًّا إلى يوم الدين، فقال:
"إني تارك فيكم الثقلين: كتابَ الله، وعترتي أهلَ بيتي، ولن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض، فلا تسبقوهم فتضلوا، ولا تُقصّروا عنهم فتهلكوا، ولا تُعلّموهم فإنهم أعلم منكم".
الركن الوثيق: العترة الطاهرة
فلو تساءلنا أنفسنا اليوم: من هو هذا الركن الوثيق الذي تركه لنا النبي؟
سندرك أنه ليس حجرًا ولا بناءً، بل هم كائناتٌ نورانية، هم عدلُ القرآن وروحه المجسدة، هم ميزان الحق ومنار الهدى، هم - وبكل حب - عترته أهل بيته، صلى الله عليهم أجمعين،
أولئك الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرًا، من تربّوا في حِجره الشريف، وتشربوا من علمه، وتخلقوا بأخلاقه، وبكل بساطة، هم السفينةُ التي من ركبها نجا، ومن تخلّف عنها غرق وهوى، هم باب حطّة الذي من دخله كان آمنًا، وتفسيرٌ للركن الوثيق وجودُهم الذي نتشبث به في عواصف الفتن، ونتفيأ تحت ظله حين تحرقنا شبهات الضلال.
وفي تأكيدٍ على مكانة ذلك الرجل الذي كان النورَ الثاني والظهيرَ الأول، أعلنها مدويّةً تملأ الآفاق:
"ألا وإن عليَّ بن أبي طالبٍ أخي ووصيي، يقاتل بعدي على تأويل القرآن، كما قاتلتُ على تنزيله". (١)
فجعل منه حصنًا حصينًا للأمة، وقائدًا لها إلى برّ الأمان، ثم أغمضت عيناه الشريفتان، وارتفعت روحه الطاهرة إلى الرفيق الأعلى، فانصدع قلب الأمة، واهتزت المدينة المنوّرة على فقدانها أحبَّ الخلق إلى الله، بكت الدنيا كلها مَن كان يحبّه، وسكن صمتٌ مهيب ذلك المكان، وكأن الكون كلّه وقف حائرًا، يتساءل: كيف تستمر الحياة وقد غاب عنها من كان رحمةً لها ونورًا؟
العهد والوصية: طريق النجاة
لقد رحل الجسد الطاهر، ولكن ذكراه باقيةٌ فينا، نبراسُنا، ووصيته خريطةُ طريقنا،
فإن التمسّك بهذا الركن الوثيق – كتابِ الله وعترةِ نبيه – هو الضمانة الوحيدة للنجاة، هو العهد الذي إن تمسكنا به، لم نضلّ أبدًا، هم الذين يحملون علم النبي، وورثته الحقيقيون، فهم أعلمُ الأمة بكتاب ربها، وأدراها بسنة نبيها، فالتمسكُ بهم حبٌّ واتباع، وليس مجردَ إقرارٍ باللسان، هو استضاءةٌ بنورهم، واستمدادٌ من علمهم، واقتداءٌ بسيرتهم، هم القادة الذين لا يُقدّموننا على الله برهانًا، والهادون الذين لا يُوردوننا موارد الهلكة.
فمن يبحث عن يقينٍ في زمن الشك، وعن نورٍ في ظلمة الجحود، وعن أمانٍ في زمن العواصف، فليتمسّكْ بركنه الوثيق، ليتمسّك بحبل الله المتين، فهما السبيل إلى أن نكون حقًا من تلك الأمة المختارة، التي تسير على الدرب حتى ترد الحوض وتلقى الحبيب، وهي ثابتةُ الخطى، واثقةُ النظرة، متمسّكة بالركن الذي لا يتزحزح.
سائرين على قوله تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ}.
واليوم، ونفوسُنا تتوق إلى نظرةٍ من نظرات رحمتك، ونداءٍ من نداءات شفقتك، نقفُ خجلين بين يدي ذكراك، أمةٌ قصّرتْ في حبّك، وفي اتباع نهجك، ولكن قلوبنا ما زالت تنطقُ باسمك، وعيوننا ما زالت تذرفُ عند ذِكرك، فاشفعْ لنا يا حبيب الله، فأنت صاحب المقام المحمود، واللواءِ المرفوع.
اجعلنا من الذين ساروا على دربك، وحافظوا على عهدك، وورثوا حبّك في هذه الحياةِ وبعد الممات، فها هي الأقدام متجهةٌ نحوك يا رسول الله، فإن طال الطريق أو قُطِع، فذهابها نحو نفسك وحبيبك عليٍّ (عليه السلام)،
فسلامٌ من مرقده إليك نبعثه، يا من وصفتنا بالمؤنسات الغاليات، ذكرتك الروحُ حبًّا، وعليك القلبُ صلّى، فأنت نعمة ربي، وأنت الأمنُ والأمل، يا من ملأتَ حنايا الكون رقةً وحنانًا، وسكبتَ في قلبي أسمى معاني الإيمان.
سلامٌ إليك ما تعاقب الليلُ والنهار، يليقُ بمقامك العالي الكبير، فذِكرك النورُ في القلب استقرّ، وفي الروح سكن، وبوصفك المعظمِ العطر، تتهادى الأنفاس، فلا حُرمنا حبًّا أودعته فينا كوثَرًا، ولا حُرمنا شفاعةَ من له ختمُ الله بالخير.
فاللهم صلِّ على محمدٍ وآل محمد، كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم،
إنك حميد مجيد.
اضافةتعليق
التعليقات