غادرت القافلة ربوع الشام في طريقها إلى كربلاء، وعرف الدليل الطريق، وراحت القافلة تسابق أمواج الفرات.
وتساءل الأطفال عن جنود ورماح كانوا يحرسون النهر .. يحرمون القلوب الظامئة والأكباد الحرى من قطرة ماء. وكانت الطيور والغزلان تمرح في الشواطئ .. ترتاد النهر بحرية.
- لو تدري أيها النهر عن قلوب ذوتَ عطشاً على شطآنك !! كان الحسين يذوب ظماً.. قلبه يتفطر، وأنت تجري .. تنثال مياهك على الشواطئ .. تهبها الحياة، وتمنح الأرض السمراء عشبك الأخضر .. وفي عاشوراء تركت قلوباً صغيرة تتلوى عطشاً، وكان الرضيع يمد يداً صغيرة؛ يطلب قطرة ماء .. ما تزال يده ممدودة تستفهم التاريخ والإنسان.
لاحت أرض كربلاء من بعيد .. الأرض التي شهدت قبل أربعين يوماً مصرع الحسين.
الخلود سهام مغروسة في الرمال .. سيوف مهشمة وبقايا رماد ...وكان يقبل قفزت الحوادث الرهيبة إلى الذاكرة تجسدت أمام العيون. وتردد صداها في القلوب.
هرولت «الرباب» إلى كومة رمل صغير .. تضم رضيعها الشهيد احتضنت الرمل ... راحت تحثوه فوق رأسها
- هلم إلي يا صغيري ...
و تساقطت قطرات من لبن سائغ فوق الثرى، فامتزجت مع الدموع.
كان الرضيع غافياً في أحضان الأرض التي لونها بدمه الرائق؛ وعندما هومت عيناها، رأت نافورة ماء تنبجس من نحر الرضيع الشهيد. وكان الأطفال يدورون بين القبور كحمائم برية تبحث عن أعشاشها.
ووقفت زينب تتأمل الصمت المهيمن .. وهي تستعيد حوادث يوم طويل .. يوم حطم الحسين شبح الموت .. يرسم بدمائه الطريق ... الطريق إلى جنات تجري من تحتها الأنهار .. وشواطئ الفرات تختزن الملح .. أمواجه سراب، وظلال النخيل رماد، والنهر حية يقهرها الظمأ.
والحسين يهوي بسيفه على صخور الزمن، فتنبجس منها ينابيع الخلود .. والحسين يقهر الموت، ينتزع من بين طواياه الحياة.
من بعيد لاح «جابر» .. رجل نصر النبي، وجاء اليوم يزور سبطه. وكان مع الأنصاري عصبة من بني هاشم .. شم جابر رائحة النبي فهوى يقبل قبر الحسين
- يا حسين .. يا حسين .. يا حسين .. حبيب لا يجيب حبيبه، وأنى لك بالجواب وقد فرق بين رأسك وبدنك .. أشهد أنك مضيت على ما مضى عليه أخوك يحيى بن زكريا.
وأجال جابر بصره الواهن بين القبور
- السلام عليكم أيتها الأرواح التي حلت بفناء الحسين وأناخت برحله .. أشهد أنكم أقمتم الصلاة، وآتيتم الزكاة، وأمرتم بالمعروف ونهيتم عن المنكر، وجاهدتم الملحدين.
والذي بعث محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بالحق نبياً، لقد شاركناكم فيما دخلتم فيه.
فقال رجل كان معه، وقد اتسعت عيناه دهشة
- كيف ولم نهبط وادياً ولم نعل جبلاً ولم نضرب بسيف ؟! وتداعت في أعماق جابر كلمات قالها محمد من قبل
- سمعت حبيبي رسول الله يقول : من أحب قوماً كان معهم، ومن أحب عمل قوم أشرك في عملهم .. والذي بعث محمداً بالحق نبياً إن نيتي ونية أصحابي على ما مضى عليه الحسين وأصحابه.
كانت الشمس على وشك أن تغيب وقد بدت حمراء .. حمراء كعين تسح دموعاً ثقالاً.
نهض جابر وقد تعفر وجهه بتراب الحسين. تمتم بحديث لحبيبه كان قد سمعه قبل أكثر من خمسين سنة، كان النبي يداعب صبياً في ربيعه الخامس ويقول: حسين مني وأنا من حسين ....
هتف جابر وسط الصمت وكان الفرات يجري .. تتدافع أمواجه:
- أشهد أني : قد سمعت ذلك من حبيبي محمد.
غابت الشمس خلف الرمال الممتدة، ونشر المساء ستائره الرمادية فوق الأرض، وانبرى رجال يدقون أوتاد خيام صغيرة ...
فزينب تريد البقاء إلى جنب أخيها الحسين.
لذلك مضى يومان والقافلة التي غادرت الشام وما تزال في كربلاء تسقي رمالها دموعاً ساخنة بعد أن ارتوت من دماء الحسين وسبعين من حواريه.
انطلق الأطفال إلى الفرات، وقد بدا والنخيل تحف شاطئيه حورية نهضت لتوها من النوم.
غمس الصغار أرجلهم في المياه، وكانت الأمواج تغسل أقدامهم برفق .. كأن النهر يعتذر إليهم عن يوم حرمهم فيه من قطرة ماء.
تذكروا أيام العطش. كانوا ينظرون إلى جهة النهر .. وكان النهر أسيراً تحرسه رماح وسهام. تذكروا صرخاتهم .. بكاءهم وهم يصيحون
- العطش ... العطش
وتألقت صورة عمهم أبي الفضل، وقد اعتلى صهوة جواده .. حمل القربة واتجه صوب الفرات .. كانوا يترقبون عودته يحمل إليهم الماء .. ولكن عمهم ذهب ولم يعد .. وظلوا ينتظرون.
وبدت السماء في أعينهم صحراء ملتهبة، فلا مزنة تحمل إليهم الودق. وكانت نتف الغيوم تعبر السماء كسفن تائهة.
وقفت زينب تتأمل الفرات وقد بدا مرثية غارقة في الحزن .. وكانت الشواطئ تبكي .. تسح دموعاً فوق الرمال، وحفيف النخيل يردد صوت امرأة تنوح بصمت.
استند طفل إلى جذع نخلة سمراء بلون الصحراء.
كان يصغي إلى نشيج الفرات وبكاء النخيل .. ينظر إلى المياه المتألقة، فيشاهد نجوماً وقمراً منيراً. هومت عيناه فرأى حصاناً أبيض ينبثق من النهر .. ينقل خطاه، والمياه تنثال منه .. ترسم درباً ندياً .. ورأى الحصان يضرب الأرض.
عمه أبو الفضل يعتلي صهوة الحصان، وينطلق صوب الفرات والقربة على كتفه .. كان الحصان يصهل، وعمه يبتسم، وقد عاد يحمل الماء .. راح يعب منه دون ارتواء .. وعندما فتح الطفل عينيه وجد زينب أمامه، وفي يديها قربة تموج بمياه الفرات.
هوت الشمس باتجاه المغيب .. جمرة متقدة .. جرح راعف ...
لحظات، وحل الظلام، فتصاعد الأنين .. أنين النهر .. النخيل .. الرمال .. وذهب الطفل يتلمّس طريقه بين نخيل الشاطئ.
بدا القمر جميلاً في أحضان الماء. رأى وجه أبيه الشهيد منعكساً فيه كمرأة صافية .. ودّ في أعماقه لو يحمله النهر بعيداً إلى عالم جميل .. إلى مدينة ترقد في أحضان النهر؛ وهناك يلتقي أباه، ثم ينطلقان معاً
إلى البحر الكبير.
استيقظ الطفل على صوت من وراء النخيل يناديه
- اين أنت يا بقية أخي؟
ونهض الصغير مسرعاً نحو جهة الصوت. إنها عمته زينب.
ارتمى في أحضانها وكان القمر يغمر الرمال بلونه الفضي المتألق.
العيون الساهرة تراقب نجوم السماء والأطفال يناغون القمر ... وتألقت في الرمال سبعون نجمة أو تزيد .. وانطوى الليل على جراح روت الأرض.
وخيل للقلوب الكسيرة أن قلباً كبيراً ينبض في أعماق الأرض فاهتزت وربت، وكان صدى صهيل يأتي من جهة الفرات.
وفي قلب الظلام، كان الحسين على فرسه يتألق في وجهـه نـور النبوات .. يحمل في يديه الورد والزيتون والماء، ويحمل القرآن.
بدت كربلاء - تلك الليلة - مسرحاً كبيراً يستوعب الحياة .. وظهر التاريخ يئن من عواء الذئاب .. يستنجد بجواد الحسين .. وكان الجواد يصهل، فتفر الذئاب مذعورة.
وينطلق التاريخ .. يعتلي صهوة الجواد .. يسابق الزمن. وكانت الذئاب تطارده لاهثة.
اضافةتعليق
التعليقات