تركت واقعة الطف الحسيني بصمتها الخاصة في صور مختلفة لمراسيم خلدها التاريخ، ومن بينها أصحاب الحسين (عليه السلام) الذين جسدوا أسمى معاني الوفاء في لحظة ندر فيها الأوفياء، إذ ندرك منهم المعنى الحقيقي للصداقة التي جسدوها بتلبية نداء الحق ونصرة ابن بنت نبيهم، فباتوا مضرباً للأمثال بين الناس عبر تعاقب الأجيال.
أصحاب حتى الشهادة
مهما يكمن جوهر الصداقة، إلا أنه نادراً ما يصل إلى حد الشهادة، وهذا ما جمع أصحاب الحسين (عليه السلام)، فقد كانوا -رضي الله عنهم- عنواناً لصداقة لا تفنيها الذاكرة والوجدان، حينما جمعهم هدف واحد، على الرغم من تفاوتهم في العمر، فهذا لم يتجاوز العشرين سنة، وآخر بلغ الثمانين، كما تفاوتوا في السكن، فهذا من الكوفة وذاك من المدينة، وهذا شيخ قبيلة وذاك من الرقّ، وغيرها من فوارق تلاشت عند ساعة الصفر، ليتجهوا جميعاً صوب الشهادة.
ليتنا مثلهم
ابتسم سعد زهير الرماحي (مصور) حينما سألناه عن رأيه بأصحاب الحسين (عليه السلام)، واسترسل قائلاً: ليتنا مثلهم، فلا يوجد وجه مقارنة بتاتاً في حياتنا، ولربما نادراً جداً ما يتصف أحد بجزء من صفات أصحاب الحسين (عليه السلام)، وليتنا نستطيع أن نصل إلى هذه المنزلة العظيمة بصداقة تصل إلى الشهادة.
من جانب آخر، قال التدريسي هشام الياسري من أهالي مدينة البصرة: لا يمكننا أن نتصف جميعاً بصفات أصحاب الحسين (عليه السلام) النبيلة، إلا أننا واكبنا بعضاً منها حينما لبّى أبناء بلدنا نداء المرجعية في الجهاد الكفائي، حيث استُشهد خيرة شبابنا، وهذا يدل على أننا نناصر الحسين (عليه السلام) في كل زمان دون وجل أو تردد، فهنيئاً لكل من لبّى نداء: (ألا من ناصرٍ ينصرنا) في كل زمان.
فيما قالت الحاجة أم حيدر (متقاعدة): للحسين (عليه السلام) أصحاب في كل وقت، فنحن اليوم نواسي السيدة زينب (عليها السلام)، وأبناؤنا أيضاً، فقد استُشهد ابني في عمليات تحرير جرف الصخر ملبياً نداء المرجعية، وحينما غادر البيت قال لي: (يمّه، اني رايح أحرر كاعْنه، ادعيلي، وإذا استشهدت لا تبجين، لأن اني راح أروح ويّا أصحاب الحسين "ع").
وتابعت بعيون دامعة: لم أنسَ ابني يوماً، لقد رحل شهيداً، وأنا فخورة به، لأنه نال الشهادة التي لا ينالها إلا ذو حظ عظيم.
رفاق الشهادة
حبيب بن مظاهر الأسدي: هو الشيخ العابد والمؤمن، وكان حامل لواء الأنصار في معركة الطف، ويعد من الأصحاب المقربين من الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)، وقد تعلم منه الكثير من الآداب والعلوم والرجولة. يُلقّب بأبي القاسم، وقد عُرف في واقعة الطف بتسجيله العديد من المواقف القوية، وقيل إنه قتل -على كبر سنه- العشرات من الأعداء.
زهير بن القين: وهو فارس مغوار خاض العديد من الحروب، وتعلم منه الكثير من الفرسان فنون القتال، ولازم الحسين (عليه السلام) كظله، وقاد الميمنة باقتدار حتى استشهد بعد أن قتل من جيش ابن سعد عشرين مقاتلاً.
مسلم بن عوسجة: يُعد من صحابة الرسول (صلى الله عليه وآله) وأعيان الكوفة، وأبرز القراء لكتاب الله تعالى، ويتمتع بسمعة حسنة بين المسلمين. وكان من أنصار الحسين (عليه السلام)، وهو أول من استشهد في واقعة الطف.
الحر بن يزيد الرياحي: من الغرابة أن هذا القائد الذي منع جيش الحسين (عليه السلام) من المسير في أي اتجاه غير طريق كربلاء، تنفيذاً لأوامر اللعين عبيد الله بن زياد والي الكوفة، هو نفسه الذي أخذته الرعشة عندما شاهد الحسين وحيداً فريداً بين جثث آل بيته وأنصاره ينادي: (ألا من معينٍ يعيننا؟)، فما كان منه إلا أن يخبر صاحبه الذي سأله عن أسباب ارتجاف جسده قائلاً: (إني أخيّر نفسي بين الجنة والنار).
ورغم النصر الدنيوي الذي كان يتمتع به هذا الفارس المغوار، حيث لم يكن يفصله عن هدايا والي الكوفة وخليفة الشام سوى قتل الحسين (عليه السلام)، إلا أنه لبّى النداء وتوجه نحو إمامه باكياً نادماً، لينضم إلى ركبه، وعندما أخذ الإذن، بارز الذين كان قبل قليل قائداً من قادتهم، وقتل العشرات حتى استُشهد بين يدي سبط الرسول (صلى الله عليه وآله).
عابس بن أبي شبيب الشاكري (رض): عندما سمع بقدوم الركب الحسيني المقدس التحق به، ومن مآثره أنه عندما خرج إلى الميدان لم يجد من ينازله لقوته وبأسه، فراح يخلع درعه أمامهم لإغرائهم، فقال له صديقه تميم بن ربيعة: (أجننتَ يا عابس؟) فأجابه بمقولته الشهيرة التي تردّدها الأجيال حتى يومنا هذا: (ويحك، إنّ حبّ الحسين أجنّني).
برير بن خضير (رض): تميز بخصال عديدة، منها أنه أبرز قراء القرآن الكريم، وأحد الأتباع المخلصين لعلي بن أبي طالب (عليه السلام)، ومن الفرسان الذين عُرفوا بالشجاعة، وأحد كرماء العرب. التحق بالإمام الحسين (عليه السلام) وشهد تفاصيل الرحلة الحسينية من مكة إلى كربلاء، وخاض المعركة بشرف حتى استُشهد في سبيل الله تعالى، مدافعاً عن الإسلام، محامياً عن آل بيت النبوة الكرام، وفياً مخلصاً.
مسك الشهادة
ذكرنا آنفاً بعضاً من الصحابة (رضي الله عنهم) الذين اصطفاهم الله تعالى ليكونوا أنصاراً للإمام الحسين (عليه السلام)، وهم خير مثال يُحتذى به لمعنى الصداقة الخالصة التي نتمنى أن نرتقي إليها في حياتنا، وأن ننال أمثالها بين علاقاتنا الاجتماعية.
لقد سطّروا أسمى صور الوفاء، فكانوا أنموذجاً خالداً لصداقة لا يفنى ذكرها، ولا يطويها النسيان، صداقة تعالت على الدنيا وزخرفها، ووقفوا معه لا طمعاً ولا خوفاً، بل حباً وعقيدة، وارتقت بالتضحية والإخلاص إلى مرتبة الخلود في ضمير الإنسان والتاريخ، فطوبى للحسين (عليه السلام) ولآل بيته وأنصاره، والخزي لقاتليهم.
اضافةتعليق
التعليقات