هل ترحل الدمعة مع من تحبّ دون أن تعانقه؟ هل تكتفي صرخات زينب العقيلة وعتابها مع الجسد المطحون؟ هل تندمل آهات السوط وهي لا تزال تئنّ ضيمها، والقدر الملطّخ قد بات خِضابَ المدفون؟!
الكلّ يعتقد أن الجراح إذا نزفت جمعت حبّات دمائها وارتحلت إلى حين الموعد المحتوم...
إلا أن دماءك يا حسين لا تزال تعانق المحزون وهي ساخنة... تلونت بالسرمدية، وتوسمت بالأزلية، لتبارك كل من بكى، وتعفّر حزنًا، ورفع راية الخلود.
إن قلوبنا نَمَت على حبّ الثقلين، وتداوت ببكاء المهموم، واتخذت لنفسها ستارًا تعلقت فيه نبضات المغموم... للعود إلى حضرة المقتول، لأنه واجهة الشفاعة، ورسالة الثقلين.
الثقلين... استقرّ رحمةَ الخلد، ينظر للخلق بعين المستغفر لهم، وقد ركنت غمراته تواسي ألم العيون. كيف للأبد أن يكون وقتًا بزمان الحدوث، وترياق الدمعة لا يهدأ، وسفينة الصرخة لم تخمد؟
والمحب لا ينسى حبيبه، فلا وقت يربطه بسلاسل، ولا المكان يفقد ذاكرته؛ لأنه الثابت في رحابٍ مبين. والتخمين لا جواب له، لأنك يا حسين الواضح المعلوم...
في كل سنةٍ ويومٍ ودقيقةٍ... تحيا أمواج التلاقي من وحل الدفائن، لتعزّز لنفسها كنايةً لا بديل لها، فالاعتقاد بالذِّكر يمنع تسريب الاكتفاء إلى الضياع.
فإنّ أرواحنا وذواتنا لا تزال يزلزلها الطبل، ويعتريها احتقان الجفون... فلا يوم ولا زمن يمنع عنّا الحزن، ولا البكاء ينتهي... لأنه الثقل المتين، وبدونه تتقلب القلوب، وتتهور النفوس، وتختلف الآراء على حبّ المغريات.
إننا نبكي كلما ذُكر اسمك على أقتاب التراث، لأنك أنت التراث الحي في القلوب، وأنت الدمعة التي يغازلها الحزن على محور القصيد، وسندان القصة، ومعلّقات الشعراء...
فكل ما فيك يا حسين يتكلم، لأن الإحساس وجيهٌ عند المشاعر، يتقلب حيثما تكون وكنتَ في أيّ زمن، ويجعلنا نحترق أسفًا، ولحظاتُ العمر مرهونةٌ برضاك، وكل دقّات الفؤاد تنبئنا بساعات الزمن الراحل وخطواته.
وكل صباحي ومسائي عالق بالغد الذي أنت تعيشه في عيون زائريك... رأيتك في عين النبوّة مسجّى، يلتهب صدرك لفقد قبلة الصباح من فم التغريد والأصالة: جدّك صلوات الله عليه.
وأنت الدمعة والشجن الذي فاض عمقًا من قلب الولاية، والوجن الغائر، وكأنه سيل مداهماتٍ، من أخبار الولاية، أباك عليّ عليه السلام. تحسّستك بين أضلاع الوجع، والقَسَم، وقسوة المسمار، وصفعةٍ قد غمرت أوجاع الكتاب المقدس، وثلثُ التكوين متخبّط على رمل العرش، وأنت ذاك الحزين الذي تغطى بعباءة العفاف: أمُّه فاطمة.
قال الشيخ الصدوق رحمه الله، يروي عن النبيّ صلى الله عليه وآله روايةً تأخذ الألباب، تكشف أن سكون الدم الطاهر بقتل هؤلاء في الدنيا لا يعني انقضاء الحزن ونسيانه، ولا ارتفاع الهمّ والغمّ عن آل محمد وشيعتهم! فإنّ حزنهم يستمرّ حتى يوم القيامة!
كل مصيبة قد تُنسى في هذه الدنيا مع طول الأيام والسنين، لكنّ الدنيا تنقضي، ولا ينقضي الحزن على الحسين.
كيف للمصائب أن تندثر، وقد نالت منك المصائب ما يُدمي القلوب، ويستعر له مضمار التأريخ؟ فأنت البيت الذي أُسّس على التقوى وحبّ الله، واعتناق ذخيرة الصالحات، وقد اجتمعت شخوص الخليقة على أن تحفظ خطواتك للتاريخ،
لتبكي عليك نازعاتٌ وطوارق...
وقد ذُكر في ثواب الأعمال وعقابها:
قال أبو عبد الله عليه السلام: "رحم الله شيعتنا، شيعتُنا والله المؤمنون، فقد والله شاركونا في المصيبة بطول الحزن والحسرة".
أنت الدمعة يا حسين، وقد خُلقت لأجلك وفي خدمتك، وأنت مروج العافية، تروح وتغدو بين أقبية الزمن، لتعيش بين أشياعك وتوافيهم برحمتك...
كيف لا؟! فـ"حسين مني، وأنا من حسين".
لم يكن لوجودك ستارٌ غامض، وأنت المكشوف، وقد نِلتَ التلاوة من جدك المصطفى، فكانت الرؤى لغزًا حائرًا لحضورك بين ظهور الغائبات...
هل ينتهي حزن الثقلين؟
وعلى منصة الكلمة محافل تطبّعت بذكرك، ومنبرُ البيعة يجهر باسمك على عهدة البكاء والآهات وكلّ التقلبات... لا تزال الأحزان تلفّ معاقل الطريق، ولا تنساك في كلّ جَلوةِ إحسان، لأنك منشؤها، وبانيها، والدفق الذي غمر العالمين من وجوده...
والثقلان مغطّيان بوابل الرحمات، لا يرضيان لنفسيهما الفرح إلا سويعات، ويستأنفان مصابهما إلى قيامة الثأرات...
اضافةتعليق
التعليقات