أقبل النور علينا من ثنيات الولادة النبوية، وهذا الفيض وتلك السجدة وذاك الكهف قد أسرج لنا أنوار العبادة، وفي ذمة اللوح قراءةٌ تجمع الصفات وتَنثُرُ لآلئ، وتفتح لنا أبوابًا مغلقةً يأمرها الغيبُ بالانشراح، وأمَنةُ الصدّيقة، وما فلق، يستعيذون بالواحد الأحد من كل حاسدٍ لولادة سيد الكائنات محمدٍ (صلوات الله عليه وآله)، وسور البيان تعترف بالتنزيل والتأويل بعده، الذي نزل بشرى وشهادة، وتأمر بالاتباع من يوم ولادته وحتى شهادته.
في يوم ولادة النبي الأكرم (صلوات الله عليه)، تصفّق الهمم وتهلل الغايات وتفرح الأفكار وتعانق الغيوم أرزاق الموائد، وصدى السماء في خدمة المعجزات يتأهب لسجدة طويلة تعانق حبًا لذلك الوليد، فكيف هي العناية الإلهية بذلك الوليد وكيف استقر؟ وقد قال مولانا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) في خطبة يذكر فيها فضل النبي وشرف آبائه وطهارتهم: (استودعهم الله أفضل مستودع، وقرّهم في خير مستقر، تناسختهم كرائم الأصلاب إلى مطهرات الأرحام، كلما مضى منهم سلفٌ قام منهم بديلٌ، حتى أفضت كرامته سبحانه وتعالى إلى نبينا محمد)، فأينما تكونوا فثم وجه محمدٍ وآله، وعلى صهوة التمجيد غفران مستديم جاء لينقذ الفقر من صيامه الدائم وقلة زاده، فكان الوليد بركةً وغدقًا، ليمسك اليد الضعيفة ويملأها كرمًا، وينقذ إهداب القِلّة فتتكاثر وتزدهر عمقًا، وقد ذُكر في مناقب آل أبي طالب أن آمنة بنت وهب قالت: (خرج رسول الله صلى الله عليه وآله رافعًا إصبعه إلى السماء، فرأيت سحابة بيضاء تنزل من السماء حتى غشيته، فسمعت نداء: طوفوا بمحمد شرق الأرض وغربها والبحار لتعرفوه باسمه ونعته وصورته، ثم انجلت عنه الغمامة فإذا أنا به في ثوب أبيض من اللبن وتحته حريرة خضراء، وقد قبض على ثلاثة مفاتيح من اللؤلؤ الرطب، وقائل يقول: قبض محمد على مفاتيح النصرة والريح والنبوة، ثم أقبلت سحابة أخرى فغيبته عن وجهي أطول من المرة الأولى، وسمعت نداء: طوفوا بمحمد الشرق والغرب، واعرضوه على روحاني الجن والإنس والطير والسباع، وأعطوه صفاء آدم ورقة نوح وخُلّة إبراهيم ولسان إسماعيل وكمال يوسف وبشرى يعقوب وصوت داوود وزهد يحيى وكرم عيسى، ثم انكشفت عنه فإذا أنا به وبيده حريرة بيضاء قد طويت طيًّا شديدًا، وقد قبض عليها، وقائل يقول: قد قبض محمد على الدنيا كلها فلم يبق شيء إلا حلّ في قبضته). وولادة الرسول الأكرم كانت فرجًا وبُشرى أضاء نورُها بيوتًا تنتظر لتملأ حضنها زاد العافية وتستقر بطونها لتشعر بالأمان في زمن الجوع وقلة الحيلة، وبولادته سكنت النفوس المتألمة واندثرت أنظمة الضلال وانكسرت أصنام الخيبة، فكانت ولادته تحوّلًا استثنائيًّا بالنِّعم، قد قلب موازين الحياة وأبدلها بقانون السماء، وقال العباس بن عبد المطلب: لما وُلد أخي عبد الله رأينا في وجهه نورًا يزهر كنور الشمس، فقيل لأبي: إن لهذا الغلام شأنًا عظيمًا، فكان أبي يهتم بأمر عبد الله فزوّجه من آمنة بنت وهب، وكانت من أجمل نساء قومها وأتمّهنّ أخلاقًا، فلما تزوجها انتقل النور إلى جنينها، فحملت بالنبي محمد، وإن دمعي لرَقراق، وإن فرحي لمشتاق، وكل ما فيّ يهتزّ لمولدك يا نبي الله، فأنت أصل الفكرة والكلمة، وقائد المنهج، وأنت إشارة العلم، وموعد التمكين، وإنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون، عهدٌ ودعاءٌ خصّك بالسلامة ودوام الذكر وثباته، فمن ذكرك كنت له شفيعًا.
وفي عصر ولادة النبي الأعظم (صلوات الله عليه)، استقر التعامل على مبدأ احترام الإنسان وضمان حريته، يجمعهم مبدأ الهدى وراية خضراء لخلق مجتمع قائم على العدالة وصوت الحق الدائم، والتهليل خطابٌ لابد أن تذعن له صفحات التاريخ، فكان عصرًا للمضامين الطيبة والارتقاء والرحمة، فأحدثت ولادته المباركة نقلة نوعية ازدحمت مفرداتها لتنبئ العالم عن شخصه العظيم وعظيم صفاته وأثره، فهذا هو الوليد، هو البشير النذير، هو المسمى بطه ويس، وفي ولادته تنامت الدعوة إلى الحق وأخذت أبعادًا مختلفة عجزت العقول عن فهمها، واعترفت بتقصيرها أمام خاتم الأنبياء، لأنه عين المعجزة التي تخطت حدود العلم والإدراك.
فقد تميزت معاجزه بالتنوع والنوعية واختُصّ بها دون غيره من الأنبياء مع أنه قد شاركهم أيضًا بما حباهم الله، ففي كل موقفٍ وحكمٍ صادرٍ عنه صلوات الله عليه على أرض الواقع، كان مندمجًا مع إعجازات توصياته الخارقة التي كانت تلامس أبصارهم وتقهرهم وهم مندهشون، وبحد ذات المعجزة، كان لها الأثر في مسار نبوته، وتلازمه حتى تُقصم ظهر الإلحاد ويُنتزع الجهل من أفق التهور، فكان لابد للنبوة وبيت الشريعة من أبٍ يختم القدرة بنور الله، ويجعل للعرش سنامًا نورانيًّا له خاصيته الكبرى، ويحمي بيت التمكين بآيات خلقه حتى تتطهر القلوب من قسوة الكلمة وتلبس ثوب الكرامة.
وتتنازل الثقافات من تعجرفها المفتقر إلى الأخلاق والقيم، لقد وُلد رسول الله صلوات الله عليه وآله، وفي أحضانه رسالة مختومة بالصدق، وسرٌّ لا يمكن أن يُفشى إلا لمن ارتضى من رسول، فهو الحمد والرزق الذي وهبه الله سبحانه لكل الناس، فكانت ولادته نقطة تحوّل في حياة البشر وزلزالًا عظيمًا أيقظ العيون من غفلة الضياع، ويكمل أمير المؤمنين خطابه بحق الرسول الكريم فيقول: (فأخرجه الله سبحانه وتعالى من أفضل المعادن منبتًا، وأعز الأرومات مغرسًا، من الشجرة التي صدع منها أنبياؤه، عترته خير العتر، وأسرته خير الأسر، وشجرته خير الشجر، نبتت في حرم، وبسقت في كرم، لها فروع طوال وثمر لا يُنال، فهو إمام من اتقى وبصيرة من اهتدى، شهاب سطع نوره وسراج لمع ضوؤه).
لقد شقّ نور محمد صلوات الله عليه أخدودًا من المعارف يروي به المناهج من عذوبة روائه ونقاء نبعه وامتيازه بالقوة والظفر والسداد، فمن شراب نطقه أيقظ وجدان البشرية، عرفهم على ذواتهم، واستنطق المكنونات باسمه ورسالته، وأثار دفائن عقولهم بالقرآن ولسان حكمته وجمال أخلاقه وكمال رحمته، فكانت ولادته الشريفة شعارَ تحدٍّ لكل من يخالف شرع الله، وقد قبض بيده الكريمة بعد ولادته المباركة، وهو لا يزال صغيرًا في المهد، أنوار الكون وأركان التوحيد وأعمدة الغيب، فتقاطرت الحكمة من فمه المبارك حتى لامست شغاف الفطرة فغذّاها بالاستقامة وبُعد النظر، فكان (هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق)، وقال أنس بن مالك: سمعت رسول الله يقول: (كنت أنا وعلي على يمين العرش نسبّح الله قبل خلق آدم بألفي عام، فلما خلق آدم جعلنا في صلبه، ثم نُقلنا من صلب إلى صلب في الأصلاب الطاهرات والأرحام المطهّرات، حتى انتهينا إلى عبد المطلب، فقسّمنا قسمين، فجعل في عبد الله نصفًا، وفي أبي طالب نصفًا، فجعل النبوة والرسالة فيّ، وجعل الوصاية والإمامة في عليّ).
إنه الكتاب الذي وسع غيب السماوات والأرض، والنور الذي كان له بُعدُ الإصلاح ونبذُ الخلاف، إن ولادة الأنبياء عليهم السلام تختلف من حيث المعنى والهدف شكلًا وقالبًا، إنها تعني ولادة عقيدة وفكر، وتبليغ شفوي، وتفعيل عملي، وانقلاب على واقعٍ فارغٍ من المحتوى المعرفي، فالنبي يعني رسالة الله في الأرض ولسانه الناطق لخلقه، يعني الوحي والآيات، هو عين الله وحكمته، هو حبل الله الذي لا ينقطع، هو السبيل الذي لا ينتهي مداه، وولادة النبي تعني كل الأخبار الغيبية التي لا بدّ للبشر أن يطّلعوا عليها حتى لا تضيع الهدفية في الحياة، ومن هنا تُعدّ شعيرة إحياء هذه الولادة من الأصول المهمة، ومن القضايا التي تحتاج إلى تفصيل في كل خطوة، والتلميح إلى الزوايا الخفية في تاريخ الولادة النبوية، فهي بحد ذاتها تُعدّ علمًا وتزكية وسرًّا عظيمًا، ليعرف القاصي والداني أن العظيم في مولده، عظيمٌ في رسالته وحضارته.
اضافةتعليق
التعليقات