كفراشة ليلية تألقت وسط الليل المدلّهم، جلست في زاوية قصيّة من فناء الدار بعد أن أنهت طقوسها اليومية في تنظيف عتبة البيت.
بداية مشوقة للقصة القصيرة للكاتبة رقية تاج ضمن مجموعة قصصية اختارت لها عنواناً جميلاً ويتناغم مع أسماء كل قصص المجموعة: (عندما يكتمل القمر) التي صدرت لها مؤخراً عن دار الجوادين في لبنان.
(قنديل واحد لايكفي) عنوان لنص جميل لشجرة وارفة الظلال، فمن خلال فهمك للنص فهماً دقيقاً يجعلك تخرجُ أفكاراً، وتبرز ماكمن فيه من قضايا سلوكية، وأخلاقية، عاطفية، اجتماعية تحاكي معاناة المنتظرين لأهل البيت من المنشأ الأول للأسرة، وكيف تكون الأم حلقة الوصل بين أسرتها والامام المهدي.
بعبارات شديدة الإيجاز لكنها تحمل من غنى الدلالة وقوة المعنى ما ينطق صراحة بنضج القصة واستواءها فنيا وبتنوع واتساع ثقافة صاحبها، واعتمدت الكلمة الدالة الموحية، فهي تحدثت بلسان الراوي في تجسيد حكاية بطلة القصة الأم وكيف استيقظت من غفلتها ببعض كلمات قد تكون عفوية من ابنها (محمد)، فهنا انتقلت الكاتبة إلى الصراع مع الذات والشعور بالضيق مما قالهُ الابن، لقلة ادراكه ومعلوماته عن الإمام المنتظر، وبينت سبب ابتعاد أغلب الأبناء عن أمورهم العبادية لإنشغالهم بواسائل الاتصالات أو التلفاز.
كان وصفها لحالة الأم وصفا دقيقا حيث قالت: كان كلامه بمثابة صغعة أيقظتها من نوم عميق، ثم تسلسلت بالمشاعر وأوضحت كيف بررت الأم سبب عدم ايمان ولدها بعودة الإمام المنتظر؛ إنها الأفكار المسمومة والمنحرفة التي تدخل إلى اللاوعي بهذه الطريقة غير المباشرة، عن طريق القصص والروايات والأفلام والمسرحيات!.
صورت لنا الكاتبة في هذه القصة أن العبادة والاعتكاف ليست هي الطريق المعبد الوحيد للوصول مع المنتظرين، بل هنالك جهاد آخر للنفس، وقد يكون أكثر مشقة وهو انتشال الجيل الجديد من هفوات التضليل والشك في ظهور الإمام وذلك كله لن يحصل إلا إذا كانت المرأة متعلمة وتمتلك علم زاخر للمعلومات التي تستند عليها، وبذلك تستطيع مواجهة زمانها بالعلم والمعرفة، فهنالك الكثير توجد لديه كتب وأبحاث عن الامام المهدي (عجل الله مخرجه الشريف) ولكن مشاغل الدنيا أبعدتهم عنها. لذلك ذكرت أن الأم توجهت إلى المكتبة تبحث عن تلك الكتب المعرفية لتغنيها بالمعلومات عن أهل البيت وإمام آخر الزمان.
وصورت لنا ببلاغة الوصف إنتقالها إلى تلك الصحوة التي أيقظها فيها الإمام حين قالت موضحة: نزعت جلدها القديم ولبست جلداً جديداً يليق بالمنتظرين الحقيقيين. وآمنت أن قنديل واحد لا يكفي لأنها ستكون دون المستوى المطلوب بل تكليفها سيكون إشعال آلاف القناديل التي ستتألق في قطع الليل المظلم، عندئذٍ فقط ستسأل بصدق: متى ترانا ونراك.
وأنت تقرأ القصة تستشعر أنها تتحدث عنك وتنقلك إلى داخل القصة لتشارك أبطالها همومهم لأنها تُخاطب المنتظرين بصورة خاصة. فيعيشوا اللحظات والصراع الذي واجهته البطلة. وكيف انتصرت على العالم الضبابي، بعد أن انتصرت بالبحث والاطلاع، فهي قد أوجدت الحلول ولم تدع القارئ يتخبط في نهاية القصة. وأوضحت بطريقة بلاغية سلسلة كيف ومتى تكون السعادة وهي في السعي للوصول للمحبوب.
لن يستطيع أيٌّ منا أن ينكر أن هذا النص يلامسه، بل يتحدث عنه في صورةٍ من الصور.. وهل يكون الإبداع أكثر من هذا؟!.
نحنُ أمامَ نصٍّ زاخرٍ بلغةٍ فريدةٍ متوهجة.. لغةٍ جمعت ما بين النثر والسرد القصصي بكل حنكةٍ واقتدار..
فلا نكاد نقرأ جملةً إلا و يحضر فيها رمزٌ أو تشبيهٌ أو كنايةٌ أو استعارة، ومع ذلك نجد النص لا ينفلتُ من يدِ الكاتبة ليحافظَ بكل مهارةٍ على لغةِ القصة القصيرة حاضرةً ومهيمنةً على كل انتفاضاتِ تلك اللغة الرائعة.
كان النص موظفاً بشكل دقيق بمايحويه من رسالة عظيمة للتواصل مع إمام العصر، بألف قنديل من السعي والاجتهاد في رضا الله والإمام عن المؤمن.. طرق شتى لنصرته وفي أولوياتها هو ارفاد العقل بالعلم النافع الذي يخدم العباد.
إذن في هذه القصة السلسة يفاجئنا هذا الازدحام من الصور البلاغية الرائعة والتي جاءت خادمةً للنص وموظفة بشكل دقيق للتعبير عن أحداثه وتقديم رسالته، وقد جاءت عفويةً في غالبها غير مقصودةٍ لذاتها، لكنها ألبستِ النَّصَ رداءً بهيًّا.
ويتجلّى في النصّ حينها كثافة وعمق شديدين. ويمكنني أن أرى كاتبتنا سارت نحو هذه الخاتمة القائمة الجميلة هو تصور قوة شخصية البطلة واخرجتها من صراع الذات والحالة النفسية المتعبة إلى السير في الاتجاه الصحيح وجعلتها تجد سعادتها بين تلك الكتب التي هجرتها منذ سنين لخدمة مولاها صاحب العصر والزمان وهنا تحقق رضا النفس.
قفلة القصة كانت لا تقل سماكة ومتانة فيما تقدم من النص حيث قالت واصفة البطلة:
نزعت جلدها القديم ولبست جلدا جديدا يليق بالمنتظرين الحقيقين وآمنت وقتها بأنه قنديل واحد لن يكفي.
تصوير بلاغي جميل يصف التحرر للإنسان الحر وتخليص الروح ونفض غبار الهموم عنه فيما كان جادا وقوياً في تغيير حياته نحو الأفضل والأتم والأكمل من أجل رضا الله ورضا أهل البيت (عليهم السلام).
ثم ختمت قصتها الكاتبة بالرسالة الثانية للإمام المهدي (عجل الله مخرجه الشريف) وهنا شدة القارئ وحفزته على قراءة النصوص التي لم يطلع عليها للأمام المنتظر وهي جانب من هدف كتابة هذه القصة المعبرة حيث جاء فيها:
"ولو أنّ أشياعنا، وفقهم اللٌه لطاعته، على اجتماع من القلوب في الوفاء بالعهد عليهم، لما تأخر عنهم اليمن بلقائنا.. فما يحبسنا عنهم إلا ما يتصل بنا مما نكرهه ولانؤثره منهم".
اضافةتعليق
التعليقات