في الوقت الذي تحتفل فيه الأمم المتحدة سنويًا منذ عام 1989 باتفاقية حقوق الطفل، التي تنصّ على حق كل طفل في الحياة، والرعاية، والحماية من العنف، نجد أن هذه المبادئ قد رُسمت بدماء بريئة على أرض كربلاء قبل أكثر من ألف عام. يومها لم تُكتب نصوص، ولم تُعقد مؤتمرات، بل كانت الواقعة صامتة بصوت الصرخة، ناطقة بدم حنجرة عبد الله الرضيع، أصغر شهيد في معركة الطف، والتي مثّلت أحد أبشع أشكال انتهاك الطفولة في التاريخ.
كان عبد الله الرضيع طفلًا لا يحمل سيفًا ولا يهدد عرشًا، بل لم يعرف من الدنيا سوى حضن أمه، غير أنه رُفع على يدي أبيه الإمام الحسين (عليه السلام) أمام جموع الأعداء، طلبًا لقطرة ماء، لا أكثر. قال أبا عبد الله (عليه السلام): «إن لم ترحموني فارحموا هذا الطفل، أما ترونه كيف يتلظّى عطشًا؟». لم يكن هذا مجرد توسُّلا، بل كانت أول صرخة حقوقية تطالب بحدٍّ أدنى من الإنسانية تجاه الأطفال في زمنٍ تجرد من الرحمة. وبينما كانت اتفاقية حقوق الطفل الحديثة تنصّ في مادتها السادسة على أن "لكل طفل حق أصيل في الحياة"، اختارت السلطة الأموية أن تبدأ هزيمتها من انتهاك هذا الحق، فأجاب السهم المثلث بدلًا من الماء، واخترق عنق الطفل من الوريد إلى الوريد وهو بين يدي والده.
أبرز الإمام الحسين (عليه السلام) الطفل بين يديه إلى السماء بعد أن تلقاه مذبوحًا بين يديه، وكأنه يرفع شكواه إلى من بيده العدالة المطلقة. لم يكن ذلك المشهد مجرد فاجعة عاطفية، بل تجسيدًا عمليًا لفكرة أن حقوق الطفل لا تتعلق فقط بالعيش، بل بالحماية من كل شكل من أشكال العنف الممنهج، لا سيما إن كان مستهدفًا على أساس الهويّة الدينية أو السياسية. فمن ذا الذي يستطيع أن يبرّر استهداف رضيع لا يفقه من الدنيا إلا الرضاعة؟ أليست هذه أبشع صور انتهاك الطفولة؟
إن واقعة كربلاء من هذه الزاوية تُبرز جانبًا أخلاقيًا تشريعيًا سابقًا لعصره، ففي زمنٍ لم تكن فيه الدولة تراعي حتى كبار السن، كان الإمام الحسين (عليه السلام) يسعى إلى حماية أصغر أفراد أسرته من العطش والقتل، وهو ما يجعل منه رائدًا لفكر حقوق الطفل قبل أن يكون الفكر نفسه مولودًا في قاموس البشرية. ولعل استدعاء واقعة الطف اليوم، خصوصًا في ظل تزايد انتهاكات حقوق الأطفال حول العالم، هو بمثابة دعوة لتأسيس وعيٍ حقوقيّ أصيل، يستلهم من دم الرضيع فكرة أنّ الدفاع عن الأطفال لا ينبغي أن يكون رفاهية قانونية، بل هو واجب عقائدي وأخلاقي.
إننا حين نقرأ اليوم المواد الدولية مثل المادة 19 من اتفاقية حقوق الطفل، التي تنص على "حماية الطفل من كل أشكال العنف أو الضرر البدني أو العقلي"، نجد أنّ كربلاء وثّقت هذا الانتهاك بدم، لا بحبر. وبهذا المعنى، فإن الطف ليست قصة قديمة تُروى للبكاء فقط، بل قضية حيّة تصلح لتكون ميثاقًا أخلاقيًا عالميًا، يعيد إلى الضمير الإنساني توازنه في زمن الحروب والانتهاكات.
ولا يمكن الحديث عن هذه القضية دون الإشارة إلى ما أقرّه فقهاء المسلمين من تحريم قتل الطفل حتى في أقسى ظروف القتال. ففي الكافي عن الصادق (عليه السلام) قال: (كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا أراد أن يبعث سرية، دعاهم فأجلسهم بين يديه، ثم يقول: سيروا بسم الله وبالله وفي سبيل الله وعلى ملة رسول الله… لا تغلوا، ولا تمثلوا، ولا تغدروا، ولا تقتلوا شيخاً فانياً، ولا صبياً، ولا امرأة، ولا تقلعوا شجراً، إلا أن تضطروا إليها، وأيما رجل من أدنى المسلمين أو أفضلهم نظر إلى رجل من المشركين، فهو جار حتى يسمع كلام الله، فإن تبعكم فأخوكم في الدين، وان أبى فأبلغوه مأمنه، واستعينوا بالله عليه) وهو ما يعبّر عن تشريع مبكّر لمبادئ القانون الإنساني الدولي الذي أصبح لاحقًا يُعرف بـ"قانون النزاعات المسلحة" أو "القانون الدولي الإنساني"، الذي يحرم استهداف المدنيين، لا سيما الأطفال.
في كربلاء، انتهكت هذه القواعد بشكلٍ سافر. فسيد الشهدء (عليه السلام) لم يحمل طفله ليشكو من العطش فقط، بل ليضع الأمة في اختبار ضميرها، فسقطت. أما الطفل، فقد ارتقى شهيدًا، ليصبح شاهدًا خالدًا على بربرية السلطان حين يفقد ضميره. ولذلك لا يمكن النظر إلى عبد الله الرضيع كرمز ديني فحسب، بل كنموذج عالمي يُذكّر بأن أول صرخة حقوقية في وجه الظلم، خرجت من صدر طفل مذبوح على يد من ادّعى الإسلام.
وهكذا، فإننا حين نتحدث عن حقوق الطفل في زمننا الحاضر، ينبغي أن نستحضر دموع كربلاء، لا لنبكي فقط، بل لنفهم أن حماية الطفولة ليست شأنًا قانونيًا عابرًا، بل مسؤولية حضارية وأخلاقية وثقافية. ومن هنا نرى أن الإمام الحسين (عليه السلام) بدم طفله، قد سطّر أول وثيقة حقوق إنسانية بمدادٍ من دم ونور، وهو ما يجعل من واقعة كربلاء مدرسة إنسانية قبل أن تكون فاجعة.
اضافةتعليق
التعليقات