تمضي الحضارة متغطرسة ‘ترفع أنفها‘ ويعلو جبينها الإستنكار كلما ذكر أمامها لفظ (الهمج)‘ وهي لا تفوت الفرصة لتملي إنجازاتها وتطورها السريع في قائمة طويلة جعلت منها لفافة تضرب بها ناصية الهمجية‘ تلك الصيغة النكرة التي لو استعضناها ب (البدائية) لكانت أدل على مدلولها.
لم تتقافز البشرية فوق نهر التحضر إلا عندما وضع الإنسان البدائي مسالك العبور على هذا اليم، ويا له من أمر صعب، إذ لم يضع حجراً ولا مدراً إلا بعد مصارعة متغيرات الطبيعة، ووحشية الكواسر، وأهوال الأدغال لينتقل مرحلة بعد مرحلة يسجل بصمات قد تبدو متواضعة إلا أنها كانت العصب المغذي للمدنية والحضارة.
لكن الغريب الملفت أن النزعة الإنسانية التي كانت لديه بالفطرة، سجلت طغياناً يضارع حماسه
وانبثاقه وظلاً وقاه تشعشعات الزمن المر في كثير من الأحيان.
فمثلاً:
"(كانت حالة تقسيم الطعام عند البدائيين دارجة مع من لا يملك منه شيئاً) كما كان المألوف كذلك للمسافرين أن يقفوا عند أي دار يشاؤون في طريقهم بغية الإستراحة وتناول الطعام، بل من الإعتيادي جداً أن تستعين الجماعات التي ينزل بها القحط بجيرانها، ولو جلس الإنسان في الغابة ليأكل وجبته توقع منه الناس أن ينادي لمن أراد مشاطرته.
يوثق ويل ديورانت في (قصة الحضارة) هذه الحالة فيقول:
لما قص (تيرنر) على رجل من (ساموا) قصة فقير في لندن سأله الهمجي في دهشة: "وكيف ذلك؟ أليس هناك طعام؟! أليس له أصدقاء؟ أليس في المكان بيت للسكنى؟ أين إذاً نشأ هذا الفقير؟ أليس لأصدقائه منازل؟".
وقد لاحظ الرحالة البيض أثناء رحلاتهم في إفريقيا أن (الرجل الأسود) إذا ما قدمت له هدية من طعام وغيره فإنه يقسمها بين ذويه فوراً؛ وإذا ما أعطى المسافر بدلة لأحد هؤلاء السود، فسرعان ما يرى الموهوب يلبس من الهبة جزءاً، ثم يرى صديقاً له يلبس القبعة مثلاً، وصديقاً آخر يرتدي السترة.
لم تكن للملكية معنى عند الإسكيمو كذلك، فكان الصائد يوزع صيده على أهل القرية جميعاً.
كتب مبشر ديني يقول: (إن ما يثير الدهشة العميقة أن تراهم يعاملون بعضهم بعضاً برقة
ومجاملة قل أن تراهما عند أكثر الأمم تحضراً؛ وذلك بغير شك يرجع إلى أن لفظي (ملكي) و(ملكك) اللتين قال عنهما القديس كريسوستم Chrysostom إنهما تخمدان في قلوبنا شعلة الإحسان وتشعلان نار الجشع؛ لا يعرفهما هؤلاء (الهمج) ويقول شاهد آخر: (لقد رأيتهم يقتسمون الصيد ولا يوجد من يعارض طريقة التقسيم كأن يقول أنه غير عادل، إن الواحد منهم ليؤثر أن يرقد في معدته الخاوية على أن يتهم بأنه أبى أن يعين المحتاج.. إنهم يعدون أنفسهم أبناء أسرة واحدة كبيرة)".
لا يعارض أحد التحضر فهي الحالة الطبيعية للبشر التي سار عليها لعقود، وسجل فيها الإنجازات الصناعية والطبية والتكنلوجية العملاقة، ولكن المرفوض أن تتحول إلى سيل تجرف معها بذور الفطرة السليمة لترمي بها في مستنقع النفايات النووية وتحكم بالإعدام على كل تلك القيم السامية التي مارسها البشر في مساحة التاريخ الرحبة وتعتبرها قواعد همجية أكل الدهر عليها وشرب.
يخطئ من يظن أن امتطاء الدبابات وتسيير المدافع والتلاعب القذر في الأسهم الإقتصادية العالمية التي تجر عنق العالم بحبل طويل نحو مستنقعات الفقر والفناء هي ضرب من الحضارة بل هو تخلف صارخ يجعلنا نذرف الدموع بغزارة على الهمجية السالفة..
اضافةتعليق
التعليقات