تستيقظ رفيدة ساسي (40 عام) باكراً كعادتها كل يوم، تتناول وجبة إفطارها الخفيفة ثم تحتسي قهوتها على عجل كالعادة، هي لا تتصفح الإنترنت أو تشاهد التلفاز في هذا الوقت؛ فلا وقت لديها لتُهدره في تلك الأمور التي تقوم بها ربّات المنزل الأخريات بعد خروج أزواجهن للعمل وأولادهن للمدارس. تغادر المرأة منزلها مُسرِعةً كل صباح، تلتقف حقيبة اليد والحذاء "السبور" في طريقها إلى الباب، وتُنهي على آخر درجات السُّلم تعديل غطاء الرأس، قبل أن تخرج إلى الشارع متجهةً إلى أقرب متجر للمواد الغذائية في حي الخليج المطل على البحر. "رفيدة"، خريجة كلية الهندسة الزراعية، هي زوجة وأم لـ6 أطفال، أكبرهم طالبة في السنة الأولى بكلية الطب. هي لا تخرج للتبضُّع لسد احتياجات أسرتها من الخضراوات واللحوم والمواد الغذائية، فهذه مهمة ذكورية بامتياز في المجتمع الليبي الذي يغلب طابع البداوة على غالبية مدنه ومناطقه، لكنها تقصد هنا المتجر لشراء مستلزمات صناعة الكعك والحلويات والمعجنات لزبائنها. هي إحدى موظفات القطاع الحكومي، وتحديداً وزارة الزراعة، اللاتي واجهن أزمة نقص السيولة في المصارف وتأخُّر صرف المرتبات بهواية الطفولة، "مصانع منزلية" لصنع الحلويات وكعكات الميلاد. يحاولن من خلالها ملء أوقات الفراغ ومساعدة أزواجهن في تأمين حياة كريمة.
هواية منذ الصغر
فالهواية أضحت مهنة تؤمِّن لها ولعائلتها دخلاً يغنيها عن طوابير المصارف أو استغلال التجار ممن يبيعون بالصكوك بعد أزمة السيولة التي تعصف بالمصارف الليبية منذ سنوات وتأخُّر صرف المرتبات لها ولزوجها الموظف بوزارة الزراعة أيضاً، زيادة على ارتفاع تكاليف المعيشة والدراسة لأبنائها الستة. رفيدة ساسي كانت طالبة متفوقة في دراستها منذ الصغر، صاحبة الترتيب الأول على دفعتها بكلية الهندسة الزراعية في جامعة عمر المختار بمدينة البيضاء (300 كيلومتر غرب طبرق)، تركت حلم مواصلة دراستها العليا حينذاك، وضحَّت بمرتبة معيدة في الكلية، وفضَّلت أن تكون ربة منزل وتتفرغ لتربية أبنائها وتعليمهم على أعلى مستوى. لكنها في الوقت ذاته، ظلت محتفظةً بهواية صنع الكعك والحلويات، حتى قررت أن تجعل من هوايتها مشروعاً تجارياً يؤمِّن لها ولأسرتها حياة كريمة، في ظل أزمة اقتصادية صعبة تشهدها ليبيا منذ الانقسام السياسي في أغسطس/آب من عام 2014.
الحلم أصبح واقعاً
"رفيدة" المرأة الطموحة صاحبة الهمة الكبيرة، قررت هذه المرة أن توسِّع من نشاطها التجاري وتبتكر شيئاً مميزاً. تقول في حديثها لـ"عربي بوست"، إنها تلقَّت عرضاً مُغرياً بالشراكة، حين اقترحت عليها شقيقتان افتتاح أول مقهى نسائي في مدينة طبرق. النساء هنا ليس لديهن أي متنفس يخرجن إليه عدا البيوت، "كانت الفكرة جديدة ومميزة بالنسبة لي، فوافقت بعد دراسة الموضوع؛ بل كنت واثقة بنجاح المشروع، خاصة أنني من سيصنع كل متطلبات المقهى من كعك وحلويات ومعجنات"، مضيفةً أن زبائنها كُثر، وحظيت بسمعة طيبة وشهرة واسعة على مدى السنوات الأخيرة. وقالت إنهم أكملوا مرحلة الدراسة والتخطيط وبدأوا التجهيز فعلياً للمقهى الأول من نوعه في المدينة، وسافرت إلى بنغازي وطرابلس لشراء المعدات والأثاث والبن الفاخر أيضاً من هناك، وكل ما يحتاجه المقهى. كما تواصلت مع عدد كبير من زبائنها القديمات. وعند الافتتاح وفي اليوم الأول، لقي المشروع نجاحاً باهراً، والمبيعات تجاوزت في اليوم الأول فقط 1000 دينار، عدا الحجوزات لأصحاب الأفراح والمناسبات، الذين سهَّل افتتاح المقهى التواصل معهم أكثر مما كان عليه أيام العمل من البيت.
العادات والتقاليد والتهديدات أيضاً
فجأة، خفتت حماسة "رفيدة" وانطفأ شيء من الأمل الذي كان يبرق من عينيها، تغيَّرت نبرة صوتها وأخذ حديثها منحى آخر. هنا العادات والتقاليد كانت عائقاً حين بدأت موجة استهجان، عبَّر عنها العديد من رواد صفحات التواصل الاجتماعي: "كيف يكون للنساء مقهى خاص". كثرت الشائعات، ثم وصل الأمر لحد المضايقات والتهديدات المباشرة وغير المباشرة. عراقيل لم تكن ضمن دراسة جدوى المشروع قبل التنفيذ، ربما أجبرت الممولين على الانسحاب باكراً، فـ"رأس المال جبان"، كما يقولون في علم الاقتصاد، فضلاً عن رغبة الممول في الربح السريع دون التركيز على جودة العمل والسمعة، كما كانت تطمح هي، المحِبّة لمهنتها والمخلِصة لزبائنها. تعمَّقت الخلافات مع مرور الوقت، لتنتهي بانسحابها نهائياً دونما الخوض في التفاصيل. تضع قالب الكعك في الفرن وتسند ظهرها إلى الحائط: "لكن المشروع توقف على كل حال". تنهيدة طويلة دون أن تتوقف عن صناعة حلويات طلبتها إحدى زبائنها في مطبخ البيت، وهي تسابق الزمن قبل أن تنقطع الكهرباء في أي لحظة كما جرت العادة.
رواج المهنة
كيان المريمي جديدةٌ على المجال برمته، تحدثت وهي متردِّدة: "بدايةً، لم أكن أحب الحلويات نهائياً، ولا أستطيع صنع أي صنف منها". لكن، أغرتها تجربة الكثير من أقرانها من ربّات البيوت، فقررت خوض غمار التجربة رغم عملها محاسِبة في ميناء الحريقة النفطي بطبرق بعد تخرُّجها في كلية الاقتصاد بجامعة عمر المختار. "قمت بالتسجيل في إحدى الدورات المختصة بتعليم الطبخ، صناعة الحلويات والمعجنات على وجه التحديد"، مشاركتها في الكورس المكثف استمرت 10 أيام متتالية، نظمته وأشرفت عليه بعض الخبيرات في مدينتها طبرق، وتمت الاستعانة فيه بطاهية محترفة، الشيف مروة، التي جاءت خصيصاً من العاصمة طرابلس، "استفدت كثيراً وطورتُ من نفسي؛ بل ووجدت الأمر مسلياً". "كيان" تصف هذه التجربة بأنها ناجحة ومفيدة جداً، متمنيةً تكرارها؛ ليستفيد منها عدد أكبر من ربات البيوت رغم الجهد والوقت اللذين استغرقتهما في صناعة أول كعكة حسب المواصفات المطلوبة، تكون مُرضية لمعلمتها ولها على الأقل. فمن خلال سماعها بقصص نجاح عديدة لمبتدئات مثلها، بدأ شغفها بصناعة الحلويات والمعجنات، وأخذت بمتابعة دروسها على الإنترنت. "كيان" حاولت الاستفادة من أخطائها في كل مرة، واجتهدت في تطوير نفسها في وقت قصير جداً، حتى جاء اليوم الذي قررت فيه الانتقال من مجرد هاوية إلى صانعة كعك محترفة لتحوِّل نشاطها إلى نشاط تجاري من قلب مطبخها المنزلي بشقتها الصغيرة.
هاويات يتفوقن على المصانع
فاطمة محمد امرأة عاملة في مجال الهندسة، تقضي معظم وقتها خارج المنزل كذلك. هي أم لطفلين يحبان الحلويات، التي لا تملك الوقت لصناعتها لهما. تروي لـ"عربي بوست" قصتها مع طاهيات المنازل، قائلةً إنهن يوفرن أصنافاً من الحلويات والمعجنات والمخبوزات أفضل بكثير من تلك التي تباع في الأسواق، "أنا لا أفضل المنتجات المصنعة في المخابز والمصانع التي يغلب عليها الإهمال وقلة النظافة، وأغلب عمالها من الأجانب الذين يفتقر أغلبهم إلى الشهادات الصحية وتراخيص العمل". هي تفضل لأطفالها منتجات منزلية من طاهية، "امرأة مثلي، أضمن نظافتها وجودة ما تستخدمه وإخلاصها في العمل". تقول إن أغلب البائعات بالمنازل هن أصحب موهبة في الأساس ويعشقن عملهن ويخلصن له رغم بعض التعقيد في مسألة توصيل الطلبات بحكم العادات والتقاليد، "يتحتم علينا غالب الوقت التواصل المباشر والتسلُّم الشخصي من البيوت، أراه هدراً للوقت". لكن في نهاية الأمر، "وجود طاهية محترفة مثل سعاد أحمد، التي توفر لي كل ما أحتاج إليه بمجرد ضغطة على سماعة الهاتف، خاصة أوقات حفلات أعياد الميلاد وزيارات الأقارب والأصدقاء، أعتبره مكسباً لي"، على حد قولها.
العذاب الحلو
مهنة لا تخلو من التعب الجسدي والنفسي رغم حب صاحباتها إياها. تحكي رفيدة ساسي عن نصائح زوجها المتكررة ومحاولته إقناعها بالتوقف أو جعلها تخصص وقتاً أكبر للراحة، بعدما ظهرت عليها علامات الإرهاق وزادت على كاهلها ضغوطات الزبونات العَجولات دائماً، فضلاً عن مشاكل الكهرباء التي لا تنتهي في معظم مناطق البلاد رغم اقتناء الطاهية المحترفة مولداً كهربائياً؛ ليعوض شيئاً من تردي الشبكة العامة. إرهاق لم تستطع "رفيدة" إخفاءه وهي تحاول ملاحقة طلبات زبوناتها حتى وقت متأخر من الليل، الذي خصَّصته للطهو؛ للتفرغ أوقات النهار لتزيين ما طهته وتغليفه وتسليمه، مقتنصةً بعض اللحظات لعائلتها كلما سنحت الفرصة لذلك، وسط ضغط العمل، الذي أجبرها على توظيف مربِّية لأطفالها، تُعينها على شيء من مسؤولياتها المتزايدة، تعبٌ تراه "رفيدة" في نهاية الأمر ممتعاً ومجدياً مادياً رغم كل شيء. حسب عربي بوست.
اضافةتعليق
التعليقات