كان شهر المحرّم الحرام فيما مضى يدخل إلى القلوب قبل البيوت، يتسلّل إلى الأرواح عبر حكايات الجدات، ومواكب الحنين، ومآذن لا تصدح إلا بنداء (ياحسين). كان كبارنا يتشحون السواد عشقًا ووفاءً، وكان الصغار يقلّدونهم برقة براءة لا تشوبها أسئلة.
لم يكن لديهم علم بالتفاصيل الدقيقة، لكنهم كانوا يحملون في قلوبهم يقينًا صادقًا أن الامام الحسين (عليه السلام) يستحق كل هذا الحزن العميق، وكل هذا الانحناء المهيب، لأن في نطق ذلك الاسم توقيرًا لتضحيةٍ أضاءت بها دروب الحرية، وإجلالًا لروحٍ أزهرت في أرض المعركة أعظم معاني الإباء والشموخ.
أما اليوم، فالوضع ليس كما كان. تغيّرت الأزمنة، وتبدّلت الوجوه، وصار الجيل الجديد يفتح عينيه لا على صورة جدته التي تمسح دموعها بكمّ عباءتها، بل على شاشة مضيئة تملأها صور وأخبار وسرعة لا ترحم التأمل. ومع ذلك، لا يمكن لأحد أن يقول إن صدى الامام الحسين (عليه السلام) قد غاب عنهم. بل لعلّ واقعة الطف في يومنا هذا أصبحت في عيون بعضهم، أوضح وأكثر حضورًا مما نعتقد.
إنّ من يتأمل في وجه فتى مراهق يضع شعار "لبيك يا حسين" على بروفايله، أو فتاة جامعية تصرّ على ارتداء عباءتها السوداء طيلة أيام العزاء رغم سخونة الطقس وضغوط الحياة، يُدرك أن العشق الحسيني لا يُقاس بالمظاهر وحدها. قد لا يحضر الجيل الجديد المجالس كما كنا نفعل، وقد لا يحفظ القصائد التي كانت تحفظها الأمهات، ولكنه يعيش عاشوراء بطريقته، بلغته، وبفهمه الخاص. لم يعد يعنيه كثيرًا البكاء كغاية، بقدر ما يهمه أن يفهم لِمَ نبكي أصلًا. لم يعد يكتفي بقصص مأساوية تروى له، بل صار يسأل: ماذا بعد؟ ما القيمة التي أعيشها اليوم من أجل ماضحّى به الامام الحسين (عليه السلام) بالأمس؟
هنا، يُطرح السؤال الأهم: هل تغيّر ملامح محرّم الحرام فعلًا؟ أم تغيّرنا نحن في طريقة استقباله؟ وهل يجب أن نخاف من هذا التغيّر؟ أم نتفهّمه ونواكبه؟ لعلّنا، نحن الأجيال السابقة، بحاجة إلى أن نعيد النظر في كيفية نقلنا للرسالة. لا يجوز لنا أن نقدّم عاشوراء كأنها عبء عاطفي، أو مجرّد واجب تقليدي نؤديه كل عام. هذا الجيل ذكيّ، سريع، ناقد، ومتصالح مع أسئلته. لا ينفع معه التلقين، بل يحتاج إلى الحوار. لا ينفعل مع النص الجامد، بل يتفاعل مع الحكاية الحيّة، تلك التي تمنحه معنى يُلامس قلبه ويحاكي وعيه.
في رحاب شهر الحزن، نحتاج أن نعلّم أبناءنا لا كيف يبكون، بل لماذا يجب أن يكون للامام الحسن (عليه السلام) مكان في كل لحظة من حياتهم. أن نربّيهم على أن كربلاء ليست مجرّد أرض، بل مبدأ. وأن عاشوراء ليست مناسبة، بل طريق. أن يفهموا أن أبا عبد الله الحسين (عليه السلام) لم يمت ليُبكَى عليه، بل عاش ليستمر فينا. حينها فقط، سيتحوّل الحزن إلى وعي، والدمعة إلى بصيرة، والزيارة إلى التزام.
جيل اليوم يعبّر عن مشاعره بلغات جديدة. قد يرسم الحسين، أو يكتب منشورًا مؤثرًا، أو يشارك في حملة خيرية باسم العباس (عليه السلام)، أو يسجّل بودكاست يتحدث فيه عن مظلومية السيدة زينب (عليها السلام). وقد يقف وحده في وسط مجتمع مستهزئ، ليعلن بثبات: "أنا حسيني، وإن لم أفهم بعد كل التفاصيل، لكنني اخترت هذا الدرب". وهذا الموقف وحده كافٍ لنقول: لا، لم يتغيّر الحسين، ولم تتغير واقعة الطف، بل تجدد حضورهما بوجوه جديدة وأصوات شابة وقوالب حديثة.
ثم إننا، إن كنا نحب الامام الحسين (عليه السلام) فعلًا، فعلينا أن نصدّق أن رسالته لا تموت مهما تغيّرت أدوات الزمن. ألم يكن سيد الشهداء نفسه سابقًا لعصره؟ ألم يخرج ليقول إن الإصلاح لا يُقاس بالأعمار ولا بالأزمان؟ فلمَ نخشى أن تختلف وسائل التعبير اليوم؟ ما دامت النوايا صادقة، والاتجاه واضحًا، فلا بأس إن تغيّر شكل المسير ما دام الهدف هو كربلاء.
في كل جيل، ثمّة من يحمل الشعلة. اليوم، يحملها فتى ربما لا يجيد قراءة المقتل، لكنه يغضّ بصره لأنه تعلم من عليّ الأكبر أن الحياء شجاعة. وتحملها فتاة ربما لم تحضر موكبًا يومًا، لكنها تنفق من مالها سرا لأنها قرأت عن جبل الصبر السيدة زينب، رمز الصبر والثبات التي جمعت بين الحنان والقوة، كانت دائمًا ملجأ الضعفاء وصوت المظلومين، تسير بخطى ثابتهٍ لا تلين أمام الظلم، وتحفظ قيم الوفاء والصبر رغم كل العواصف.
إذاً، لا تسألوا كثيرًا: "هل تغيّر محرّم؟" بل اسألوا أنفسكم: "هل نُحسن إيصال سيد الأحرار كما ينبغي؟ هل نُعلّمهم ئأن الثورة ليست فقط بندقية، بل ضمير؟ وأن العزاء ليس فقط لباسًا أسود، بل روحًا بيضاء؟"
الحسين سيبقى… ما بقي في الأرض قلب ينبض بالكرامة، ولسان ينطق بالحق، وعقل يرفض الذلّ. أما الأجيال، فهي تمضي، لكنها تحمل من كربلاء أكثر مما نظن، إن نحن عرفنا كيف نقرأ قلوبهم لا فقط ملامحهم.
اضافةتعليق
التعليقات