بين الفينة والأخرى تحتاجُ الروح لممارسة تمارين الامتنان، أن تقاوم التعوّد ولا تدع التكرار يسلبها قوة الملُاحظة، أن لا تدعك رتابة الأيام تنسى روعة وجود أمك في المنزل، ولا كم هو مخلصٌ صديقك، وكم هي لذيذةٌ قهوتك، وكيف أنك مرتاح في معظم أمورك. أن لا تمنعك البلادة من تقدير الأشياء الجيدة المحيطة بك بحجة أنها عادية، الأشياء العادية هذه هي غالباً أمور رائعة.
وإلا لِمْ تستمر في تعاطيها والعيش بها كل يوم؟! يُفقدنا الاعتياد القدرة على تثمين النِعم، ولذا فإن الحالة الطبيعية للجسد وهو معافى كل يوم لا تسترعي انتباه صاحبها، بينما سيجعله ألم ضرسه يصب كلّ تركيزه على موضع الألم، بل سيتحول عندها كل وجوده الماديّ إلى تأوه مستمر ومحاولات متواترة لتسكين هذا الوجع والعودة للحالة الطبيعية السابقة، حالة الجسد وهو لا يشعر بشيء، حالة السكون التي لفرط اعتيادنا عليها لم نعد نقيّم رفاهيتنا بها هي أكثر الأمور التي يجب أن تسترعي انتباهنا لها، أن نُدرك عظمتها ونشكرُ ديمومتها.
ينطبق الأمر على كافة جوانب الحياة الأخرى، كلُ ما نعيش فيه ومن خلاله يحيا بالامتنان، يمكن لكل ما حولك أن يُكرمك بالمزيد من الخير حين تصله منك طاقة الامتنان والشكر، يمكن أن تمتن لغسالة الملابس التي تُخرج لك الملابس جاهزة ونظيفة، للثلاجة التي تحفظ لك طعامك طازجاً، للنباتات التي تُزيّن منزلك وتمنحه شعوراً بالحياة، ولنسائم الهواء التي تنساب لك من نافذة غرفتك أو سيارتك، وللقطة التي تعطيها قطعة دجاج فتمنحك شعوراً عذباً وأنت تراقبها تأكل، وللطيور التي تطهّر مسامعك بأنغامها دون مقابل، والكثير من الأمور الأخرى التي لا تُعد ولا تُحصى ولو نظرت حولك الآن في أي مكان أنت فيه لوجدت على أقل تقدير عشرة أشياء تحمدُ الخالق على وجودها وأولهم أنت ذاتك، بكل ما فيك من تكوينك البشري المعقد، وبكل عافيتك وحواسك ونضجك وممتلكاتك.
يُعرّف الامتنان بأنه القدرة على إظهار التقدير ورد العطف، وأُطلق عليه تسميات مثل (فضيلة وموقف وعاطفة وحتى مهارة)؛ إذ عبر شعراء مثل "رالف والدو إمرسون" (Ralph Waldo Emerson) عن مزاياه، قائلاً: "عوِّد نفسك على الشعور بالامتنان لكل شيء جيد يحدث لك وعلى الشكر باستمرار"، بينما قال الفيلسوف الرواقي شيشرون: "الامتنان ليس فقط أعظم الفضائل؛ ولكنَّه والد كل الفضائل الأخرى". كما يزخر الدين الإٍسلامي بالكثير من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي تحثُ على ممارسة طقوس الامتنان، قال تعالى: (قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُن مِّنَ الشَّاكِرِينَ). وقوله: (وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْماً وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِّنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ) وكذلك الآية الأكثر تداولاً (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ) التي لو يُتعمق في معناها ويُعمل بها بشكل واقعي لعرف المرء حظوة آلية الشكر وكيف تُقابل بالزيادة، وعلى النقيض منها يُقابل الجحود بالشحة.
وعلى الصعيد العلمي، فإن علم النفس الإيجابي يُقر بأن الأشخاص الذين يُمارسون الامتنان بصورة مستمرة وبشكل يومي تجدهم أكثر سعادة وبهجة لفترة طويلة. فإذا كان الإنسان ممتناً بشكل عام على أغلب الأشياء التي في محيطه، فبالمقابل سوف يجذب الكثير من الأشياء التي تجعله أكثر امتناناً وشكراً.
تخلُص آلية ممارسة الامتنان بشكل يوميّ إلى نقل المرء لوعي أعلى، لمراحل أوضح من مراحل التجليّ الوجودي، حيث يعرف المرء قيمة وجوده، فلا توسوس لهُ شياطين الجن والأنس وشياطين نفسه بأنه قد يكون خُلق عبثاً أو أنه يتعرض للظلم من الحياة وأن الأقدار لا تسير لصالحه وأنَّ الحظ حالف فلان ولم يحالفه.
الشكر وتقدير الموجودات من حولنا يهذّب النفس، ويكثّف فيها شعور الأهمية والنُبل البشريّ ويدحض العبثية التي تودي للهلاك. قدرتك على القراءة الآن، تنفسك المنتظم، وجود وجبة ستأكلها بعد ساعتين، والسقف الذي فوقك، كلها أمور تستجلب روح الحمد، أن تجتمع كل خلاياك التكوينية لسجدة شكرٍ تصلُ ذبذبات الامتنان فيها للسماء السابعة.
اضافةتعليق
التعليقات