أفصحْ أيها الحزن، وألزمْ هدفك، فإن دموعك قضية رهان ترفض الاستسلام وتأبى التراجع، بل هي أزيز غيث، وأكوام صرخات من حنجرة الثورة، غسولُ أبدانها نهضة، ومن وزن البكاء، وأعياء الزحف، وبراءة القدرة، انطباعٌ غائر من القيم قد حفر أخدودًا ثابتًا على جبين التراب، على مدى المسير.
يعج المسير بالدم، وعنف الرمال، وبصمة الحرور، ورياح الظلم، سياطٌ لا ترحم. مجمع الأخلاق، والبقاع، أضحت قبورًا من نور الكرامة، وثمّة انسياب على مدى الزحف قد جسّد أفكارًا، وانطباعًا، وحلولًا غير مبتورة الأثر لكل جيل.
أين أنت أيها الفزع؟! وكيف وِعاء الرسالة؟!
هل استحال البصر إلى بصيرة، والدم إلى كوثر، وبعض أشلاء المقاومة إلى عطشٍ نقي؟!
يتحدّى الصدى ويعينه القذى، إن في قلب الصبر صرخةً لامرأة تجوب صحراء اليُتم، وترجمت السهر إلى تدبير لقافلة الدمعة، وحبر الاستغاثة ساجدٌ تحت العرش يُقبّل أعتاب التضحية، ويقول: شكرًا، وبكاءُ الصغير همزةُ وصلِ الأثير.
استصغرتْ مفرداتها كُرسيّ ظالم، وثقبتْ بنظرها سطوة المتكبر، فولّد موقفُها خطوةَ سيفٍ على عنق الواهن، وكل ضعيف ذليل، ومسرحُ الأسر قد كبّل كلَّ حروف الطغيان، وزمزمةَ خذلانهم بطعنة السكوت والخنوع، فكانت هي الناطقَ المستنير.
يتوهّم السراب في شكوى الألم، حيث لا منصة تستوعب الذي جرى، والفرقان على أمل استرجاع الكتاب الذي سُرق من أكفان الطهارة... فتطول المفارقة وتذوب، حتى يلتهب منبر الدعاء، ويُذكر الفداء، ونسب الآباء، والنبوة، في دار التوبة تمنح استغفارًا لجيل الضياع.
ويبدأ القرآن لِـلَمّ شمل الكتاب في عبارات، والبلاغةُ والأدبُ ثقافة أفواه الأسود، تعقد إشارتها موقفًا قويمًا لقول الخطاب... ويبدأ العتاب ومعه العذاب...
فقامت زينبُ البطولة، بعد شماتة يزيد وما فعله برأس الحسين (عليه صلوات الله)، وقالت:
«أظننتَ يا يزيد حيث أخذت علينا أقطار الأرض وآفاق السماء، فأصبحنا نُساق كما تُساق الأُسارى أنَّ بنا على الله هوانًا، وبك عليه كرامة، وإنَّ ذلك لعِظَمِ خَطَرِكَ عنده؟! فشمَخْتَ بأنفِكَ، ونظرتَ في عِطْفِكَ، جذلانَ مسرورًا، حين رأيت الدنيا لك مستوسقة، والأمور متَّسقة، وحين صفا لك ملكنا وسلطاننا، فمهلًا مهلًا، لا تطشْ جهلًا.»
ذلك الخطاب سيفٌ أشد من اللظى على قلب المتكبر اللعين... بهيمةٌ ظلّت طريقها في سُبلٍ معوجة، فادلهمّت أفكاره في جريمة لا تُغتفر. يظن أن النصرَ أبديّ، والانتقامَ عمليّ، ليرضي به حشاشةَ نفسه، إلا أنه كُتب على تاريخه افتضاحُ البذرة وسوء القدوة، ولقمته الإجرام...
لأن القدر لا يمنح العُلى لأهل الضلال، بل يستدرجهم إلى سقر الأفعال، وذِمامٌ معلقة في أعناقهم إلى حيث الهوان المطلق، في جبٍّ من الوعيد، يُساقون إلى نهايتهم.
فيزدلف صوت القدرة زينب، وتخاطب ذاتَ الفساد لتعرّيه وتلبسه ثوب الذل، قائلة:
«أمِن العدل يا ابن الطلقاء، تخديرُك حرائرك وإماءك، وسوقُك بناتِ رسولِ الله سبايا؟!»
الخِدر وثيقةُ العبادة، ودليل إرادته، ومعبدُ الخصال الحميدة... في الشدائد ينحتُ الرداءُ التزامَ الوطن بالمبادئ... لأن الحقّ خِدرُ الزاهدين، والحاكمين، وكلِّ عابدٍ في محفل العالمين... والعفّة ستارٌ وصفةُ أهل الخير والسلام.
البيان لا يتوقّف، والتاريخ شاهد، ورواية العشق ما زالت تروي لنا أزلية الخلود وسط عطاءات الغيب، وحرية الإنسان... وسط سلاسل الظلم الذي تاهت حلقاته وهو يجول عنق العصمة ودعاء الخُلد... رقابٌ تحمّلت فواجع الطريق، وسِربالَ السوط، وفواحش اللَّمم من أفواه النار...
هذه زينب الكبرى (عليها السلام)... قدّت المنبر الأموي إلى نصفين بخطابها الأزلي المتقد بحروف العرش وجمال الغيب، ارتعدت له مفاصلهم، وفصائل الوهم أنكبّت تبحث عن قرين يرمم لها الذهول الذي غيّر مجرى التاريخ.
لقد استدرجتهم يدُ القدرة، وقد أسرتهم نواياهم وسجاياهم الخبيثة إلى حيث الوقوع في بئر الخسارة والانتقاد... فالعصا التي وكزوها عادت عليهم لتهزمهم.
على مدى الضوء الخافت، وسط صحراء الذبيحة، تحمّلت الأرزاق كل الجوع والعطش، ونوقَ الضعف، لتصل إلى برّ... القيم والأهداف، اتّكأت على أكتاف النور لتحظى بالكرامة، تسير حيث ساروا، في منتجع الغيب والسلام.
وقد سارت معهم كتائبُ الصبر، والعيون معلّقات على ستائر الرماح، والملائكة صافّون، مشيّعون، ومواسون، ومنتظرون أجلَ المقتدر المنّان.
المسير يخاطب الأطلال بلغة القوة، ودموع الطفل الصغير بشجى الجنين الذي مات ذبحًا على وتير الصفوة، وبعض أمهات القراءة تعبّئ تغاريدَ من دموع الكون لضُحى القيامة.
لقد رسمت سيدتي زينب (عليها السلام) مقالَ الاستصغار بجملة التجاهل، وحفظت للتاريخ، ولكل مسير، مثالًا وصهيلًا لا يهدأ، وأثبتت في عزمها لكل خطوة ثباتًا، ولكل سجدة دمعةً مجابة، وكل شعار، وإن كان في صمت، فهو طاعةٌ وتوحيدٌ لمنهاج الطف، وإن حجاب البراءة، وقناعة اليد، صاعقةٌ بوجه الظالمين، لأن الصرخة خاطبت الدمعة، وعلى صدورها وهجٌ كبير.
«ولئن جرّت عليّ الدواهي مخاطبتك، إنّي لأستصغر قدرك، وأستعظم تقريعك، وأستكثر توبيخك، لكنّ العيون عبْرى، والصدور حَرّى.»
إنهم أموات؟! بل أحياء من عمق الترتيل يُرزقون، ينتظرون فرج الرسالة، وأهداب الفقرة التالية، لأنهم بدائلُ الطريق، حليفُهم النصر... ليتحوّل بديلُ الدم إلى ثأر تتوارثه أكفّ الأجيال، ولكي يُهَيّأ من أمرهم رشدًا... إذن لا بد من هذا العذاب وعبق المسير، حتى يُفتضح الظالم، ويقيّض الله عمر تاريخه، ويُخذَل ويُهان... لأن الدعاء فجرٌ ثابت التحقيق، وسرمديّ العمر، وكما نطقت لبوة الرسالة:
«وحسبك بالله حاكمًا، وبمحمدٍ صلى الله عليه وآله خصيمًا، وبجبريل ظهيرًا، وسيعلم من سوّل لك ومكّنك من رقاب المسلمين، بئس للظالمين بدلًا، وأيّكم شرٌّ مكانًا، وأضعف جندًا.»
إن الكلمة الحرة لباس الأتقياء، وجوهر العلماء، وشعار أهل الدين، وتعبيرُ الموالي إلى يوم اللقاء، أن ترتقي القدرة وينتصر المنهج، ورواءُ العلم، وفخرُ الأخلاق.
إنّ دين بني أميّة لا يعدو كونه اختلاقًا على هيئة فوازير متخلفة، تصنع من الحقد لباسًا، ومن الخنجر عقابًا، ومن الكفر ألفاظًا تدنّس الدين، وطرقاتهم غارقة في وحل المتاهات والتهيؤات، وسلاحٌ أهوج لا يفهم إلا لغة القتل والتشتت، وما حكمهم إلا نفوذٌ مختصر لا يدوم، ودويلاتهم حكايات قصيرة لا تفهم من الدراية سوى نهب التراث وسحق المبادئ... شعارهم العداء، وأدبهم شعر الهجاء، والعبث بمقدّرات البشرية.
وكما قالت زينبُ البطولة:
«ألا فالعجب كل العجب، لقتل حزبِ الله النجباء، بحزب الشيطان الطلقاء، فهذه الأيدي تنطُفُ من دمائنا، والأفواه تتحلّب من لحومنا، وتلك الجثثُ الطواهرُ الزواكي، تنتابُها العواسل، وتعفّرها أمهاتُ الفراعل.»
لكنه الوعد الذي تفرّ منه كتائب النفاق، ودعاء الكفّ التي لا تخطئ الهدف، وأنفاسٌ تروّضت على الذكر، وقولِ الصدق الذي يُوعَدون.
اضافةتعليق
التعليقات