في ظل العصر العباسي شجع العباسيون الصراعات الفكرية والتناحر العقيدي، وأثاروا الخلافات المذهبية والآراء والحروب الكلامية المفصلة، وكانوا يعاقبون عليها، وربما أودت هذه الخلافات بحياة الكثير، كل ذلك من أجل تثبيت سلطانهم وفرض سيطرتهم على الناس، بإشغالهم بالهوامش وإثارة المسائل الخلافية الاستهلاكية على ما يصطلحون عليها اليوم باسم «الاستهلاك المحلي». لإبعاد الناس عن سياسة النظام وجذور المواقف ومع ذلك كان الإمام الصادق له بأسلوب حر طليق يعالج الشبهات، حيث كان الملحدون والزنادقة يسعون لبث أفكارهم التشكيكية حتى في الأماكن المقدسة للمسلمين، كالمسجد الحرام والمسجد النبوي الشريف بالمدينة المنورة.
لكن ذلك لم يحدث أي أثر من التشنج والانفعال لدى الإمام الصادق وأصحابه في مناقشته لهم، وردّه على إشكالاتهم وآرائهم المنحرفة، بل كان يتحاور معهم في جو من الحرية والانفتاح حتى اعترف له أقطابهم بالتفوق والتميز الأخلاقي الرفيع.
يقول المفضل بن عمر أحد أصحاب الإمام الصادق .
كنت ذات يوم بعد العصر جالساً في الروضة بين القبر والمنبر - بين قبر الرسول الله ومنبره - وأنا مفكر فيما خص الله تعالى به سيدنا محمد من الشرف والفضائل .
فإني لكذلك إذا أقبل ابن أبي العوجاء فجلس بحيث أسمع كلامه، فلما استقر به المجلس إذ رجل من أصحابه قد جاء، فجلس إليه فتكلم ابن أبي العوجاء فقال: لقد بلغ صاحب هذا القبر العز بكماله ... فقال له صاحبه: إنه كان فيلسوفاً ادعى المرتبة العظمى والمنزلة الكبرى... فقال ابن أبي العوجاء: دع ذكر محمد الله، فقد تحير فيه عقلي، وضل في أمره فكري، وحدثنا في ذكر الأصل الذي يمشي له ... ثم ذكر ابتداء الأشياء، وزعم أن ذلك بإهمال لا صنعة فيه ولا تقدير، ولا صانع له ولا مدبر، بل الأشياء تتكون من ذاتها بلا مدبر.
وعلى هذا كانت الدنيا لم تزل ولا تزال. قال المفضل: فلم أملك نفسي غضبناً وغيضاً وحنقاً، فقلت: يا عدو الله الحدت في دين الله، وأنكرت الباري جل قدسه الذي خلقك في أحسن تقويم، وصورك في أتم صورة، ونقلك في أحوالك حتى بلغ إلى حيث انتهيت! فلو تفكرت في نفسك وصدقك لطيف حسك لوجدت دلائل الربوبية آثار الصنعة فيك قائمة، وشواهده جل وتقدس في خلقك الحرية بين الدين والدولة واضحة، وبراهينه لك لائحة فقال: يا هذا إن كنت من أهل الكلام كلمناك، فإن ثبتت لك الحجة تبعناك، وإن لم تكن منهم فلا كلام لك، وإن كنت من أصحاب أبي جعفر بن محمد الصادق فما هكذا تخاطبنا، ولا بمثل دليلك تجادل فينا، ولقد سمع من كلامنا أكثر مما سمعت، فما أفحش في خطابنا، ولا تعدى في جوابنا، وإنه الحليم الرزين العاقل الرصين، لا يعتريه خرق ولا طيش ولا نزق يسمع كلامنا، ويصغي إلينا، ويتعرف حجتنا حتى إذا استفرغنا ما عندنا وظننا أنا قطعناه دحض حجتنا بكلام يسير وخطاب قصير يلزمنا به الحجة، ويقطع العذر، ولا نستطيع الجوابه ردا، فإن كنت من أصحابه فخاطبنا بمثل خطابه .
وذات يوم بينما كانت حشود الحجيج تطوف بالكعبة المشرفة غارقين في خشوعهم وابتهالهم، كان يقف في إحدى زوايا المسجد الحرام عدة نفر من أقطاب الزنادقة الملحدين، كعبد الله بن المقفع، وعبد الكريم بن أبي العوجاء، يتفرجون ساخرين على مناسك الحج وعباداته، وعلى مقربة منهم كان يجلس الإمام الصادق ، فالتفت عبد الله بن المقفع مخاطباً رفاقه:
ترون هذا الخلق؟ - وأومى بيده إلى موضع الطواف. ما منهم أحد أوجب له اسم الإنسانية إلا ذلك الشيخ الجالس - يعني جعفر بن محمد له ـ فأما الباقون فرعاع وبهائم، فقال له ابن أبي العوجاء وكيف أوجبت هذا الاسم لهذا الشيخ دون هؤلاء؟ قال: لأني رأيت عنده ما لم أن عندهم، فقال ابن أبي العوجاء: ما بد من اختبار ما قلت فيه منه، فقال له ابن المقفع: لا تفعل فإني أخاف أن يفسد عليك ما في يدك، فقال: ليس ذا رأيك ولكنك تخاف أن يضعف رأيك عندي في إحلالك إياه المحل الذي وصفت، فقال ابن المقفع : أما إذا توهمت علي هذا فقم إليه وتحفظ ما استطعت من الزلل، ولا تثن عنانك إلى استرسال يسلمك إلى عقال، وسمه ما لك أو عليك، قال: فقام ابن أبي العوجاء وبقيت وابن المقفع رجع إلينا وقال: يا ابن المقفع ما هذا ببشر، وإن كان في الدنيا روحاني يتجسد إذا شاء ظاهراً ويتروح إذا شاء باطناً فهو هذا، فقال له : وكيف ذاك؟ قال: جلست إليه فلما لم يبق عنده غيري ابتدأني فقال: إن يكن الأمر على ما يقول هؤلاء وهو على ما يقولون - يعني أهل الطواف - فقد سلموا وعطبتم، وإن يكن الأمر كما تقولون - وليس كما تقولون .
فقد استويتم وهم، فقلت له: يرحمك الله وأي شيء نقول؟ وأي شيء يقولون؟ ما قولي وقولهم إلا واحداً، فقال: كيف يكون قولك وقولهم واحداً وهم يقولون: إن لهم معاداً وثواباً وعقاباً، ويدينون بأن للسماء إلها، وأنها عمران، وأنتم تزعمون أن السماء خراب ليس فيها أحد.
الحرية بين الدين والدولة
قال: فاغتنمتها منه فقلت له: ما منعه إن كان الأمر كما تقول أن يظهر لخلقه ويدعوهم إلى عبادته حتى لا يختلف منهم اثنان، ولما احتجب عنهم وأرسل إليهم الرسل؟ ولو باشرهم بنفسه كان أقرب إلى الإيمان به.
فقال لي: ويلك وكيف احتجب عنك من أراك قدرته في نفسك؟ نشؤك ولم تكن، وكبرك بعد صغرك، وقوتك بعد ضعفك، وضعفك بعد قوتك، وسقمت بعد صحتك وصحتك بعد سقمك، ورضاك بعد غضبك، وغضبك بعد رضاك وحزنك بعد فرحك، وفرحك بعد حزنك، وحبك بعد بغضك، وبغضك بعد حبك، وعزمك بعد إبائك، وإباؤك بعد عزمك، وشهوتك بعد كراهتك، وكراهتك بعد شهوتك، ورغبتك بعد رهبتك ، ورهبتك بعد رغبتك ورجاؤك بعد يأسك، ويأسك بعد رجائك، وخاطبك بما لم يكن في وهمك، وعزوب ما أنت معتقد من ذهنك. وما زال يعد علي قدرته التي في نفسي التي لا أدفعها حتى ظننت أنه سيظهر فيما بيني وبينه .
اضافةتعليق
التعليقات