في حديثٍ عظيم لأمير المؤمنين (عليه السلام) وهو يصف ولده الحسين (عليه السلام):
"يا أبا عبد الله، أُسوةٌ أنت قِدَمًا"، أي: أنت منذ القِدَم أسوةٌ وقدوة، حتى للأنبياء والرسل. وهذه منقبةٌ ومعجزةٌ لسيد الشهداء، كما أنها برهانٌ عصريٌّ نشهده اليوم.
فباب الحسين وسفينته أوسع وأكبر، وما نشاهده اليوم في المجتمعات البشرية المضطرِمة بالتكالب والتطاحن والحروب والعداوات، والتي تئنّ من الظلم الاقتصادي بسبب الأزمة المالية الراهنة، ومن الظلم والتمييز الهمجي؛ يظهر بوضوحٍ أن كل الأنظمة التي حكمت — الاشتراكية، الرأسمالية، الشيوعية، الديمقراطية — لم تقدم أي حلول لهذه الأزمات.
وفي ظل هذا، نرى هناك بيعةً وانقيادًا بشريًا طوعيًا سلميًا سلسًا وسنويًا لسيد الشهداء، بحيث تأثر القريب والبعيد، والعالم وغير العالم، بهذه المدرسة، وبهذه الدولة التي رفعتها النفوس والبشر، لا الجغرافيا. هذه الدولة قائمةٌ ومبنيةٌ على يد سيد الشهداء. فكم هي قدرة قيادة الإمام الحسين (عليه السلام) للمجتمعات؟
وقول أمير المؤمنين (عليه السلام):
"يا أبا عبد الله، أُسوةٌ أنت قِدَمًا"
يعني أن تأثير الحسين لم يبدأ بعد واقعة عاشوراء، بل قبلها، حيث علم به الأنبياء والأوصياء. فماذا صنع بهم الحسين لكي يكون لهم أُسوةً؟
إن الله سبحانه كان يوحي ويقصّ على الأنبياء ما يجري على سيد الشهداء، لا لأجل السرد، بل لكي يعظهم ويربّيهم على الصبر. وعندما كان يستعرض لهم واقعة عاشوراء، كان يأخذهم البكاء، وهذا نوعٌ من الآلية والبرنامج التربوي الإلهي بأنبيائه؛ ليكاملهم إلى المعالي.
ومن هنا كانت مواقف سيد الشهداء في كربلاء هي، بالقياس للأنبياء، مستقبل. وتمتد هذه المواقف إلى المشروع المهدوي، فالمشروع المهدوي قائمٌ بالمشروع الحسيني.
ومن خلال ما سبق، فإن الحسين هو الناصر لولده المهدي (عجل الله فرجه)، وهو الذي يُعدّ العدّة له (عجل الله فرجه)، لأن هذا التدريب الروحي، وهذه التربية الروحية، وهذا البناء الروحي الإنساني لأجيال المؤمنين يتمّ بيد الحسين (عليه السلام). فهو الذي يُوطّئ للظهور ولنصرة ولده المهدي (عجل الله فرجه)، ومن هنا نستطيع أن نقول: إن المهدي يُنصَر بالحسين. وهذه نقطةٌ مهمة.
والنقطة الأخرى: أن المشروع المهدوي لا تقوم له قائمةٌ بدون الحسين.
وبعبارةٍ أخرى، أيها المهدويون، يا عشاق المهدي (عجل الله فرجه)، ويا عشاق الظهور والفرج، بابكم الأوسع لنصرة الإمام المهدي (عجل الله فرجه)، ولإقامة المشروع المهدوي، هو مشروع الحسين (عليه السلام) والشعائر الدينية، وهذا أمرٌ عظيمٌ جدًا يجب الالتفات إليه.
ومن ثم، فإن زيارة الأربعين، في ذاتها، وبحجمها الملاييني، هي تربيةٌ على الإعداد للظهور وللمشروع المهدوي.
إن زيارة الأربعين هي عبارة عن مهرجانٍ إلهيٍّ تعبويٍّ، يتم فيه نوعٌ من دخول البشر في النور، وبالتالي يتدرّبون على التضحية في سبيل القيم والمبادئ. ومن ثم على رفعة معدن الذات والطينة الإنسانية، فبدل أن تكون خسيسةً دنيئةً، أسيرةً للشهوات أو للغرائز أو للدنيا أو لحب البقاء، وبدل أن تكون ذليلةً رهينةً للسفاسف، سوف تتصاعد وتحلّق إلى المعالي، وتبني شخصية الإنسان في هذا المعسكر، وتتشرّب فيه القيم والمعالي والفضائل والعزّة.
ولذلك، نرى أن كل المراقبين الدوليين المترصّدين — ومن مصادر عديدة — يُقرّون بأن هذه الزيارة المليونية هي أكبر معهدٍ ومعسكرٍ لتدريب النفس البشرية بشكلٍ عظيم. حيث تُدرّب النفس على التضحية، والفداء، والعطاء، بحيث إن أي دولة كبرى، لو أرادت أن تعبّئ شعبها — ولو شرائح قليلة منه — استعدادًا لحربٍ أو لحالة طوارئ، فإنها لا تستطيع أن تجنّد إلا القلة القليلة، وبالترغيب أو الترهيب.
بينما في زيارة الحسين، نجد الملايين من البشر، بل زحفًا بشريًا مليونيًا، وطوعيًا، من داخل البلد وخارجه.
فما هذه القدرة في التعبئة؟!
اضافةتعليق
التعليقات