لا يوجد شيء أكثر أهمية للمستعمرين والغاصبين الذين يسعون إلى استغلال المنابع الطبيعية وسرقة كنوز وثروات الدول النامية من اضطراب الثقافة، وضعف الفكر، وانعدام الإدراك، وجهل المواطنين.
فهؤلاء المستعمرون يدركون جيدًا أنه إذا كانت الدولة تمتلك ثقافة صحيحة، وتعرف حقوقها المدنية والاجتماعية، وتتميز بعقل سليم وأعصاب قوية، فلن تسمح أبدًا لأيٍّ كان أن يتجاوز حدود وطنها.
وانطلاقًا من هذا الأصل، يسعى المستعمرون بكل طاقتهم، وباستخدام وسائل مختلفة، إلى إضعاف الطاقة الفكرية والعملية وإرادة الدول النامية، لاستغلال هذا الضعف والعجز في تحقيق مصالحهم الشخصية واستعمار تلك البلدان.
ومن البرامج التي وضعها المخطط السياسي لتحقيق هذا الهدف وجعل الإنسان عبدًا له ما يلي:
إتاحة حرية بيع وشرب الخمر والكحول والمخدرات، وإنشاء أماكن خاصة لتناولها.
ازدياد مجالس الرقص والحفلات والملاهي.
عرض أفلام تثير الشهوات الجنسية، ونشر صور النساء العاريات أو شبه العاريات في المجلات والجرائد، وكتابة قصص ومقالات عن الحب، ومدح الراقصات.
تشجيع الشباب على العزف والطرب واللهو.
بثّ الأغاني المثيرة للشهوات عن طريق الإذاعة، وعرض رقص النساء عبر التلفاز.
كل هذا من العوامل التي يعتمد عليها الاستعمار لإضعاف فكر الإنسان وعقله.
نعم، إنّ المستعمرين يريدون من خلال هذه البرامج، التي يسمونها زورًا "عصر الحرية والديمقراطية"، أن يصنعوا عبيدًا جدُدًا، ويحققوا طريقة فعالة لجعل المواطن عبدًا والمستعمر سيدًا، وذلك عبر نشر الضياع والعجز الفكري، وتضييع الإرادة والحكمة، وإضعاف الأعصاب، وتفشي الاضطرابات الفكرية والروحية، والأمراض النفسية والقلبية، بل والانتحار.
ومن الطبيعي أنه عندما نتأمل في ماهية عمل الموسيقى وأهدافها نلاحظ أنها تمتلك كل ما يحتاجه المستعمر لتحقيق غاياته السياسية، إذ تُستغل الموسيقى كأداة فعالة في هذا المجال.
ولهذا نرى أن الدعاية للموسيقى أكثر انتشارًا من أي دعاية أخرى في حياتنا المعاصرة.
فمثلًا، يُفترض أن يكون الراديو وسيلة للتربية والتعليم ونشر العلم ورفع مستوى الوعي، لكنه في أغلب الأحيان يبث الموسيقى ليلًا ونهارًا، ويجعل البرامج الإصلاحية تحت تأثيرها وهيمنتها.
كم هائل من الدول يعاني من مشكلات ثقافية وصحية، ومع ذلك لا يعاني من أي نقص في البرامج الموسيقية!
لقد أصبحت الموسيقى تُقدَّم على أنها "غذاء الروح"، ويُقال إنها تؤثر في نمو النباتات، وتزيد من إنتاج اللبن لدى الأبقار، بل وحتى الإنسان!
غير أن هذه الادعاءات تفتقر إلى الأساس العلمي والمنطقي، فالنباتات تحتاج إلى الماء والعناية الكيميائية لا إلى "أصوات العازفين"، وزيادة اللبن أو سمنة الأغنام ترتبط بالتغذية الجيدة، لا بالألحان الموسيقية.
أما القول بأن الموسيقى تعالج الجنون والأمراض النفسية، فهو ادعاء يناقض الواقع؛ إذ تتزايد الإحصاءات حول المرضى النفسيين والانتحار يومًا بعد يوم، خاصة في أوروبا وأمريكا.
فلو كانت الموسيقى علاجًا حقيقيًا، لكان الأطباء يسمحون للعازفين والمطربين بالذهاب إلى المصحات العقلية لعلاج المرضى بالموسيقى، ولأُغلقت مستشفيات الأمراض النفسية وتوفرت الأموال لخدمة المجتمع!
كل ذلك ليس إلا دعاية مزيّفة، لأن الموسيقى – في نظر الكاتب – إحدى الوسائل التي تهيئ العبودية الحديثة، وتجعل الإنسان خاضعًا للمستعمرين، حيث يمكن التحكم بعقله وفكره عبر الراديو وغيره من الوسائل الإعلامية.
وقد أشار إلى ذلك العالم المعروف ألكسيس كاريل – أول أمريكي يحصل على جائزة نوبل – حين قال:
"تلك الحرية التي يتحدث عنها الناس ليست حرية اقتصادية ولا فكرية ولا أخلاقية، فالفقراء علميًا وعقليًا هم الذين يمتلكون هذه الحرية، يتنقلون من كوخ إلى كوخ، ومن محل إلى آخر، يقرأون موضوعات كاذبة في المجلات والجرائد، ويستمعون إلى دعايات مضللة من الراديو، ثم يظنون أنفسهم أحرارًا سياسيًا، وهم في الحقيقة عبيد اقتصاديون."
إنّ سبب نجاح المستعمرين يكمن في تقصيرنا في العمل وتضييع مسؤولياتنا، حتى سقطنا في هاوية الاستعمار الثقافي.
فالعقل الإنساني يعجز في بيئة مليئة بالأكاذيب والملاهي التي تضعف الإيمان وتحتقر القيم.
وكما تمنع الدول تناول الأنعام المصابة بالأمراض المعدية، ينبغي عليها أيضًا أن تحمي مواطنيها من أمراض الروح والعقل الناتجة عن الإعلام المنحرف والأفلام الهابطة والمجلات الماجنة.
لقد غرق الإنسان المعاصر في بيئة مضطربة مليئة بالضوضاء والمثيرات الجنسية والهواء الملوث، ولم يعد قادرًا على التأقلم مع هذه الظروف المدمّرة.
ولذلك، لا بد من تغيير جذري في شروط حياتنا ومفاهيمنا، حتى لا نُبتلع باسم "الثقافة الحديثة" و"الحرية".
إنّ أعظم غاية للحضارة ليست التقدم العلمي وحده، بل تكامل الإنسان روحيًا وأخلاقيًا.
لقد غرقنا في أوروبا وأمريكا في أكاذيب الإعلام والملاهي، حتى سُلبت منا حرية التفكير، وصِرنا عبيدًا جددًا تحت قناع "الحضارة".
إن العلماء والمفكرين الغربيين أنفسهم ينتقدون هذه البرامج المدمّرة في الراديو والسينما والمجلات، ويرونها أدوات ذكية لخلق "عصر العبيد الجديد".
اليوم، باسم الحرية والحضارة، حُرّفت البشرية عن طريقها الصحيح، وأُغرقت في الشهوات والضياع.
وما لم ندرك خطورة هذا الانحراف، فستكون عواقبه أخطر من الاستعمار العسكري نفسه، إذ تتمثل في زيادة الأمراض النفسية، واضطرابات الفكر، وفقدان التوازن الروحي، وارتفاع نسب الانتحار بين الشباب.
إن هذه الظواهر كلها – كما يرى الكاتب – نتيجة للحضارة الحديثة المزيّفة، التي تشكل الموسيقى أحد أهم أركانها وأدواتها الفعالة.








اضافةتعليق
التعليقات