ترغم قسوة الحياة أحيانًا بعض الأشخاص على ترك مقاعد الدراسة، متناسين أن التعليم هو سلاحهم لمحاربة الجهل والمضي في طريق آمن. ومنهم من سعى جاهدًا لمواصلة رحلة التعليم ليخرج من ظلام الجهل إلى النور، وإن فاته قطار العمر، إذ بحث عن أبسط وسيلة ليتعلم القراءة والكتابة فالتحق بمراكز محو الأمية.
في اليوم العالمي لمحو الأمية تأخذنا (بشرى حياة) في رحلة استطلاعية لنستمع إلى قصص الدارسين، وما تقدمه المراكز من دعم لهذه الشريحة في المجتمع.
العرف القبلي
أثنت الحاجة أم نصير، في عقدها السادس، على الجهود المقدمة من قبل المركز، حيث قالت:
لم ينصفني القدر لأتعلم في المدرسة، وذلك بسبب العرف القبلي في القرية التي يقطنها عشرات النسوة بدون تعليم آنذاك.
كان الحزن يعتريني لعجزي عن القراءة، وما إن تسنّت لي الفرصة للالتحاق بمركز محو الأمية لم أتوانَ عن التسجيل والمباشرة. إذ كان هذا المركز بمثابة يد امتدت لغريق، فها أنا أجيد القراءة، وقد انتقلت من صف الأساس إلى الصف التكميلي وبدأت أقرأ القرآن والزيارة دون طلب المساعدة من أحد.
شكر وامتنان
"مهما تحدثت لا يسعني إيصال شكري وامتناني لكل من ساهم في تأسيس هذه المراكز، وكثيرًا ما أدعو لهم في صلواتي.”
بهذه الجملة استهلّت هناء حسين نعيمة (30 سنة) حديثها، لتواصل قائلة:
تركت مقاعد الدراسة في المرحلة الثانية من الصفوف الأولية، لم أدرك حينها أهمية التعليم، حتى والداي لم يكترثا لأمري. أحسست بمرارة ذلك حين رزقني الله بالأولاد، وأنا عاجزة عن متابعة واجباتهم المنزلية. ولأن زوجي أمي أيضًا وافق على أن ألتحق بالمركز.
وختمت حديثها: تغمرني السعادة اليوم وأنا أتابع دروس أطفالي، فقد تعلمت القراءة والحساب وتلاوة سورة الفاتحة وغيرها من السور القصيرة. ويُعدّ هذا بالنسبة لي إنجازًا كبيرًا.
تحدي الصعاب
وعن رحلة تعليم ابنتها حدثتنا الحاجة أم هيثم قائلة:
اعتراني الخوف وأنا أدون اسم ابنتي في قوائم التسجيل للدارسات في المركز. رفض زوجي التحاقها بالمدرسة، وباءت محاولاتي بإقناعه بالفشل، معللًا ذلك بأن مصيرها الزواج، فما الحاجة إلى التعليم؟ وحينما علمتُ بافتتاح مركز لمحو الأمية في قريتنا قررت تحدي الصعاب وتسجيلها دون معرفته بذلك.
وتابعت: قررتُ اصطحابها معي إلى السوق كل صباح لتحضر الدرس، وبينما أعود من التسوق أنتظر موعد خروجها لتعود معي، بحجة مساعدتها لي في حمل ما ابتعته. ولأن زوجي يخرج لعمله صباحًا ويعود مساءً لم يشعر بشيء طيلة تلك المدة. لربما ما فعلته خطأ، إلا أنني لست نادمة عليه، فلا أريد لابنتي أن تلاقي نفس مصيري، فظلم الجهل يقتل صاحبه.
نور التعليم
بينما قال أبو جعفر، من مواليد 1960، والابتسامة لا تفارق محياه:
أحضر كل يوم مع ولدي جعفر ليحضر الدرس وأنا أنتظره. فاجأني أستاذه بسؤاله: هل تجيد القراءة والكتابة؟
أجبته بالنفي، فطلب مني أن أدخل الصف مع ابني لأتعلم بدل جلوسي خارجًا. اعتراني الخجل في بادئ الأمر، لكن الأستاذ حثني. واليوم أجلس إلى جوار ابني في المقعد ذاته، نجيد القراءة وما زلنا نكمل المشوار معًا. لا أستطيع وصف شعوري وأنا أبصر بنور التعليم الكلمات.
إدارة المراكز في مدينة كربلاء المقدسة
كاظم عادي، مدير مركز المودة لمحو الأمية (قسم الذكور) الواقع في منطقة فريحة، حدثنا قائلاً:
يتكون مركزنا من شعبتين فيهما 40 دارسًا بأعمار متفاوتة، وهم ملتزمون بالحضور والانتباه إلى الدرس وتحضير واجباتهم، ومساعدة بعضهم في حل المشاكل التي تعيق حضورهم، كالصانع في محل أو الحارس، حيث نتحدث مع ربّ عمله لمساعدتهم على الحضور وعدم التغيب. ولأن الرجال لديهم مسؤوليات المعيشة المضنية يكون عددهم قليلًا.
بينما قالت سلمى سالم خضير، مديرة مركز المفاخر لمحو الأمية (القسم النسوي) الواقع في ناحية الحر:
لقد بذلت مجهودًا كبيرًا في تأسيس هذا المركز، فالبعض يخجل من الالتحاق به، إلا أنني قمت بوضع بوسترات إعلانات تحث على التسجيل، كما وفرت وسيلة نقل لمن يكون بيتها بعيدًا. وقد وصل عدد الدارسات لدي إلى 33 دارسة من فئات عمرية مختلفة.
أسباب تفشي الأمية
وكان للباحثة الاجتماعية نور الحسناوي مشاركة بخصوص هذا الموضوع، حيث قالت:
إن أسباب تفشي الأمية عديدة وتختلف من مجتمع إلى آخر. ففي المجتمعات الفقيرة والدول النامية نجدها تشكل نسبة كبيرة تكاد تصل في بعض البلدان إلى (60%) حسب إحصائيات الأمم المتحدة، بسبب الفقر والتخلف وانعدام المجال التربوي والتعليمي في تلك الدول. أما في الدول المتقدمة والغنية فالخلل يكمن في الحكومات وسياساتها الداخلية تجاه شعوبها.
وأشارت بقولها: إن محاربة الأمية يبدأ من خلال الإرشاد والإعلام، لا سيما في المحافظات الجنوبية والقرى النائية، إذ نجد أن أغلب مناطق الريف يعدّون دخول الإناث إلى المدرسة عيبًا ويمسّ بتقاليدهم العشائرية الموروثة عن الأجداد.
وختمت حديثها: إن الأمية مخلفاتها كارثية ولا يمكن حصرها، فهي في النهاية تدفع بالإنسان إلى الهاوية وبالمجتمع إلى التقهقر وبالتالي إلى دمار الأمم.
اليوم العالمي لمحو الأمية
في الثامن من شهر سبتمبر تُقام الاحتفالات السنوية باليوم الدولي لمحو الأمية في جميع أنحاء العالم منذ عام 1967، ويكمن الهدف من هذا اليوم في تذكير واضعي السياسات والأخصائيين وعموم الجمهور بأهمية محو الأمية الحاسمة لإنشاء مجتمعات أكثر استدامة وعدلًا وسلامًا وإلمامًا بمهارات القراءة والكتابة.
ولهذا اهتمت الحكومة العراقية بالجانب التربوي، حيث أقامت وزارة التربية هيئة عليا لمحو الأمية، وأصدرت قانون محو الأمية رقم (23) لسنة 2011، وكلفت الوزارة مديرياتها العامة في المحافظات بالبدء بخطة عمل، إذ هيّأت المراكز الخاصة باستقبال الدارسين وأعدّت الملاكات التعليمية للمراكز، كما وفرت لهم منهاجًا خاصًا وُزِّع على جميع محاور المدن لاستقطاب الدارسين، وقد لاقى إقبالًا واسعًا في كل المناطق.
كما تتضمن المراكز مرحلتين وهما: صف الأساس والصف التكميلي، حيث يمنح الدارس شهادة الصف الخامس. وغالبًا يكون عدد الدارسات من الإناث أكثر من الذكور. كما وضعت الوزارة قانون إنصاف غير المتعلمين، إذ يمنح الدارس في محو الأمية شهادة تمكّنه من إكمال تعليمه من خلال التقديم على امتحان المسرع لمرحلة السادس الابتدائي، أو تُقدَّم هذه الشهادة لغرض التعيين في بعض دوائر الدولة. وهناك أيضًا من يحصل عليها لأجل أن يكمل تعليمه. وذلك لمنح هذه الشريحة فرصة في العمل وضمان حياة كريمة.
اضافةتعليق
التعليقات