نموت لأجل من نحب، ونُردد آلاف الكلمات لنبين حبنا، وأحيانًا نهدي أموالًا هائلة لأجل إدخال السرور إلى قلب من نحب. ولكن في هذه الأثناء يجب أن نتذكر أن الحب لا يعني فقط الشوق والآهات، بل يعني الاهتمام وقت الحضور والغياب، يعني أن ننتبه لما يثقل روح المحبوب، وما يُتعب مزاجه، وما يُقلقه دون أن يقول... فالحب الحقيقي هو المراعاة.
يقول مولانا الصادق (عليه السلام):
"إنّا لنحب منكم من كان عاقلًا فهيمًا."
لذلك فإن وجود العقل يُميز الإنسان عن الحيوان وباقي المخلوقات، ويُعطي قيمة لأفعال وأعمال الإنسان. عندما نبحث عن أهمية العقل، نجد أن الفرد قد يرتقي إلى أعلى علّيّين بفضل قرار يتخذه بعقله، أو يسقط إلى أسفل سافلين بسبب عدم اتخاذ القرار الصحيح، أو التسويف عند العمل، فقد يندم طوال حياته بسبب قرارات كان يجب أن يتخذها دون تردد، لكنه بقي حيرانًا وضيع الفرصة، أو تريث في اتخاذ قراره فلم يُوفّق ليكون من الفائزين.
قصة يزيد بن ثبيط، ذلك الشخص المعتمد، الذي أرسل رسالة إلى الإمام وأعلن انتظاره وحبه لنصرته والجهاد ضد الظلم، فرد عليه الإمام برسالة وطلب منه الالتحاق به، فدعا يزيد بن ثبيط أصحابه، وقال: "أيكم يخرج معي؟"، فانتدب له اثنان: عبدالله وعبيدالله.
ثم قال لأصحابه: "إني قد عزمت على الخروج، وأنا خارج، فمن يخرج معي؟"
فقالوا له: "إنا نخاف من أصحاب ابن زياد."
فقال: "إني والله، لو قد استوت أخفافها بالجدد، لهان علي طلب من طلبني."
ثم خرج مع ابنيه، وصحبه عامر، ومولاه، وسيف بن مالك، وأدهم بن أمية،
فالتقوا بالإمام الحسين (عليه السلام)، واستُشهدوا في يوم عاشوراء، وسُجّلت أسماؤهم في قائمة الخلد.
وهناك قصة مماثلة، حين استلم أحدهم رسالة سيد الشهداء، لكنه تريّث، فتأخر عن اللحاق، ففاته أن يكون من الفائزين.
كما ورد... استجاب الزعيم الكبير يزيد بن مسعود النهشلي لنداء الحق، فاندفع بوحيٍ من إيمانه وعقيدته إلى نصرة الإمام، فعقد مؤتمرًا عامًا دعا فيه القبائل الموالية له، وبعد أن كثر عدد الأنصار، أرسل رسالة إلى أبي عبدالله الحسين (عليه السلام)، قال فيها:
"أما بعد، فقد وصل إليّ كتابك، وفهمتُ ما ندبتني إليه، ودعوتني له من الأخذ بحظّي من طاعتك، والفوز بنصيبي من نصرتك،
وإنّ الله لم يخلُ الأرض قط من عاملٍ عليها بخير، ودليل على سبيل نجاة، وأنتم حجّة الله على خلقه، ووديعتُه في أرضه..."
ويقول بعض المؤرخين:
إنّ الرسالة وصلت إلى الإمام (عليه السلام) في اليوم العاشر من المحرّم، بعد مقتل أصحابه وأهل بيته، وهو وحيدٌ فريد قد أحاطت به القوى الغادرة،
فلمّا قرأ الرسالة، قال (عليه السلام):
"آمنك الله من الخوف، وأرواك يوم العطش الأكبر."
ولما تجهز ابن مسعود لنصرة الإمام، بلغه خبر قتله، فجزع لذلك، إذ لم ينل ذلك الوسام الشريف، ولم يُكتب اسمه مع أسماء شهداء الطف. بالتأكيد، حب الإمام هو أسمى وأعظم أنواع الحب، ولذلك فإن هذا الحب العظيم يتطلب قرارات عظيمة وتضحيات كبيرة.
رُقيّة (سلام الله عليها) تعلمنا التضحية في رحاب المحبوب، وتعلمنا كيف يحترق الحبيب في فراق المحبوب ويموت شوقًا للوصول إليه.
طفلة صغيرة زلزلت أركان قصر الطاغية يزيد، وسجلت اسمها في سجل العظماء،
وبيّنت أن الدفاع عن الحق لا يحتاج إلى أدوات خارقة أو ما يفوق العقل، بل حتى في الخَرِبة، رغم فقر الممتلكات، يستطيع الإنسان أن يكون ناصرًا لإمام زمانه. وهنا ندرك عِظَم تقصيرنا في حق مولانا الحجة (أرواحنا له الفداء)، إذ لم نبكِ لفقدانه، ولم نتحسّر على عدم رؤيتنا له، ولم نذكره، ولم نُعرّفه للآخرين، ولم نُبيّن مظلوميّته!
تلك الصغيرة علّمت الأجيال أن حب إمام الزمان واجب، وأنه وسام يرتقي به الإنسان ويعرج به إلى العلياء. أقحوانة بعثت برسالة إلى العالم، كشفت فيها عن خطة استراتيجية متكاملة:
يتيمة أسيرة في الخَرِبة، دمّرت بنيان قصر يزيد الطاغية، وحوّلت القصر إلى خراب، وجعلت من الخَرِبة قصرًا من قصور الجنة في الأرض!
بيديها الصغيرتين فتحت عقدًا يعجز الكثيرون عن فتحها، هي صغيرة في العمر، ولكنها كبيرة في العطاء.
لنعرف أن من يتمسك بإمام زمانه، سيكبر ويرتفع وإن كان صغيرًا، ومن يتمسك بإمام زمانه، سيصبح نجمًا في سماء العظمة.
اضافةتعليق
التعليقات