في قلب العراق، حيث تُلامس الروحُ الأرضَ في قدسيةٍ فريدة، تقف كربلاء شامخةً كصرحٍ من الإيمان والألم. ومع بزوغ فجر شهر محرم الحرام، شهر الحسين بن علي (عليه السلام)، تتحول هذه المدينة المقدسة إلى لوحةٍ حيةٍ تعجُّ بالوجدان الجمعي، وتنبض بقلبٍ واحدٍ ينبض حزناً على فاجعة الطفّ الأليمة. إنه "شهر الحسين"، حيث تصبح كربلاء قبلةً لملايين الزوار (الزائرين) من شتى بقاع الأرض، وتتحول شوارعها وساحاتها إلى مسرحٍ مهيبٍ لأعظم "المواكب الحسينية" في العالم الإسلامي.
كربلاء: الاستعداد لاستقبال الحزن
قبل وصول المحرم، تبدأ المدينة بالتحول. تُنصب الخيام السوداء (المآتم) في الأزقة والساحات، وتُعلَّق رايات العزاء السوداء والحمراء والزينة الخاصة بالمناسبة على الجدران والأعمدة. تتسارع الأيادي في تجهيز مستلزمات إيواء وإطعام الزائرين، في مظهرٍ رائعٍ للتكافل والتضامن المجتمعي. يبدأ الجو بالتكثف، ويهبط سكونٌ مقدسٌ يسبق العاصفة العاطفية.
انطلاق الزحف المقدس: موجات من الحشود
مع أول أيام المحرم، تبدأ موجات الزائرين بالتدفق على المدينة كسيلٍ لا ينقطع. رجالاً ونساءً، شيوخاً وأطفالاً، يسيرون مئات الكيلومترات أحياناً سيراً على الأقدام، في مسيراتٍ (المشيات الحسينية) تنظمها مجموعاتٌ من مختلف المدن العراقية والعربية والإسلامية. يرددون أناشيد العزاء (الرادودات)، ويضربون الصدور (اللطم) تعبيراً عن مشاركتهم في ألم الإمام الحسين (عليه السلام) وأهل بيته وأصحابه. مشهدٌ مهيبٌ يُجسّد قوة الإرادة وعمق الولاء.
المواكب الحسينية: نبض الشارع الكربلائي
تعتبر المواكب الحسينية هي القلب النابض لكربلاء خلال أيام العشرة الأولى من محرم، وخاصةً في يومي التاسع (تاسوعاء) والعاشر (عاشوراء). هذه المواكب هي تجمعاتٌ شعبيّةٌ تنظمها العائلات الكربلائية أو الحسينيات أو المجموعات القادمة من مناطق أخرى، كلٌّ يحمل اسمه وشارته الخاصة. وتتميز بتنوع أشكالها:
1. مواكب اللطم (اللطميات): وهي الأكثر انتشاراً. يتقدمها رايةٌ سوداء (علم) ترمز للحسين (عليه السلام)، ويتبعها مجموعة من الرجال يضربون صدورهم بأناشيد عزاء حماسية يلقيها (رادود) أو (قارئ قصيدة)، غالباً على إيقاع طبول (نقارات). الإيقاع يبدأ هادئاً ويتصاعد مع القصيدة ليصل إلى ذروةٍ عاطفيةٍ جارفة. صوت اللطم الجماعي يخلق رعداً إنسانياً يهزّ المشاعر.
2. مواكب التطبير (الزنجيل/ القامة): وتشهد استخدام أدواتٍ رمزيةٍ كسلاسل صغيرة (زنجيل) تضرب على الظهر، أو سيوفٍ (قامة) تضرب على الرأس. هذه الممارسة، رغم الجدل حولها في بعض الأوساط، تعتبر من قبل ممارسيها تعبيراً جسدياً عن مدى المشاركة في الألم والتضحية، وتقام ضمن ضوابط وأماكن محددة غالباً.
3. مواكب التشابيه (التمثيليات): وهي مواكب مسرحية تجسّد مشاهد من واقعة الطفّ، مثل استشهاد الإمام الحسين (ع)، أو استشهاد أخيه العباس (ع) (قمر بني هاشم)، أو استشهاد الأطفال كعلي الأصغر (ع). تستخدم الدمى والملابس الخاصة لإحياء الذكرى بشكلٍ مرئيٍ مؤثر، خاصةً على الأطفال.
4. مواكب الخدمة: وهي مواكب لا تقل أهمية، مهمتها تقديم الخدمات للزائرين والمشاركين في المواكب الأخرى. تحمل الماء والتمر والشاي والطعام (الزمزميات) والمستلزمات الطبية، تجسيداً عملياً لخلق الإمام الحسين (ع) وسخائه حتى في أحرج اللحظات.
5. موكب الطف : وهو من أبرز المواكب في ليلة العاشر من محرم. يخرج بعد صلاة المغرب من منطقة بين الحرمين (بين مرقد الإمام الحسين ومرقد أخيه العباس) ويتجه نحو مكان استشهاد الحسين (ع)، مرددين أناشيد الحزن على واقعة الطفّ، في مشهدٍ يلامس القلوب.
ساحة بين الحرمين: بؤرة المشهد
تتحول الساحة الواسعة الفاصلة بين مرقد الإمام الحسين (ع) ومرقد أخيه العباس (ع) "بين الحرمين" - إلى مركز ثقل العالم الشيعي في هذه الأيام. تتحرك فيها المواكب بشكلٍ دائريٍ أو متقاطع، تملأها الأصوات المتداخلة للرادودات، وقرع الطبول، وزخات المطر من دموع الحشود. رائحة التراب تختلط برائحة المسك والطعام الموزع. الأضواء الكاشفة تخلق ظلالاً دراميةً على الوجوه الحزينة والملتاعة. إنها لوحةٌ سمعيةٌ وبصريةٌ وشميةٌ لا تُنسى، تجسّد ذروة المشاعر الإنسانية من حزنٍ وتضامنٍ وتجردٍ.
ما وراء الحزن: رسالة خالدة
رغم طغيان مشاهد الحزن والألم، فإن إحياء ذكرى استشهاد الإمام الحسين (ع) في كربلاء، عبر هذه المواكب المهيبة، يحمل في طياته رسائل عميقة تتجاوز البكاء:
* التأكيد على مبادئ الحق والعدل: استشهاد الحسين (ع) كان دفاعاً عن القيم الإسلامية الأصيلة في مواجهة الطغيان والانحراف (يزيد بن معاوية).
* رفض الظلم والاستبداد: تُجسّد الواقعة أسمى معاني التضحية في سبيل الحرية وكرامة الإنسان.
* تعزيز الوحدة والتكافل: تجمع الملايين من خلفيات متنوعة في مكانٍ واحدٍ لغايةٍ ساميةٍ يُظهر قوة التلاحم المجتمعي والإنساني.
* تربية الأجيال: من خلال المشاركة والمشاهدة، تُنقل قيم الشجاعة والإيثار والإيمان والتضحية للأطفال والشباب.
* التطهير الروحي: يعتبر المشاركون أن البكاء على الحسين (ع) والتعبير عن الحزن وسيلةً لتطهير النفس وطلب القرب من الله.
دماء تروي شجرة الخلود:
شهر الحسين في كربلاء ليس مجرد مناسبة دينية، بل هو ظاهرة إنسانية واجتماعية وثقافية فريدة. المواكب الحسينية هي دموعٌ متحركةٌ، وأناشيدُ حزنٍ نابضةٌ، وصورٌ حيةٌ تروي قصةً خالدةً. قصةٌ تذكر العالم بأن دماء الأبرياء التي تُسفك في سبيل المبدأ لن تذهب سدى، بل تتحول إلى شعلةٍ تنير درب الأحرار عبر العصور. وكربلاء، في شهر محرم، تتحول من مدينةٍ إلى قلبٍ ينبض بالحسين، وصرخةٍ مدويةٍ ضد الظلم، وموكبٍ لا ينتهي نحو القيم الإنسانية السامية التي استشهد من أجلها سبط رسول الله (صلى الله عليه وآله).
إنه مشهدٌ يثبت أن ذكرى الحسين (عليه السلام) ليست حبيسة الماضي، بل هي قوة دافعة وحية في وجدان ملايين المؤمنين، تجد تعبيرها الأكثر إثارةً وعمقاً في مواكب كربلاء الحسينية.
اضافةتعليق
التعليقات