تُمثّل حادثة استشهاد الإمام علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) خاتمة مأساوية لمسيرة إمامٍ حمل عبء النهضة بعد فاجعة كربلاء، وحافظ على الإسلام الأصيل من خلال الدعاء والعبادة والعلم وسط ظروفٍ قاسية.
١. وريث كربلاء
هو الإمام الرابع عند الشيعة، علي بن الحسين (ع)، الملقب بـ زين العابدين وسيد الساجدين لكثرة سجوده وعبادته، وذو الثفنات من أثر السجود.
شهد فاجعة الطفّ في كربلاء وهو في الثالثة والعشرين من عمره، مريضًا على فراشه، عاجزًا عن القتال، فاقدًا أبيه الحسين (ع) وأخوته وأبناء عمومته أمام عينيه.
حمل مسؤولية الإمامة في أحلك الظروف: أسيرًا في قافلة السبايا، ثم مُراقبًا في المدينة تحت سيطرة الأمويين الطغاة.
٢. معاناته بعد كربلاء: جسدٌ عليل وقلبٌ مُثقل
المرض في كربلاء: منعه المرض من المشاركة في القتال، فكان شاهدا حيّا على استشهاد أبيه وأهله، وتكسّر أضلاعه تحت حوافر الخيل كما تشير الروايات المؤثرة والمراثي مثل البيت الذي استشهدت به:
"السلام على من سمع صوت أضلاع أبيه تتكسر".
أسيرًا في قافلة السبايا: تحمّل أهوال الأسر والتنكيل عبر الطرقات من كربلاء إلى الكوفة ثم إلى الشام، وهو يحمل همّ النساء والأطفال من أهل بيته.
العودة إلى المدينة: عهدٌ من الرقابة والاضطهاد
عاد إلى المدينة ليواجه حكّامًا أمويين (يزيد ثم معاوية بن يزيد ثم مروان بن الحكم ثم عبد الملك بن مروان ثم الوليد بن عبد الملك) يرون في وجوده خطرًا على سلطتهم، فراقبوه وحاصروه وضيّقوا عليه.
منهجه في النهضة: قوة الضعفاء
في ظلّ القمع الشديد، اختار الإمام السجاد (ع) منهجًا فريدًا لإحياء القيم الإسلامية ومواجهة الانحراف الأموي:
الصلاة والدعاء: كانت عبادته أسطورية. عُرف بكثرة السجود حتى سُمّي زين العابدين. جسّدت مناجاته في الصحيفة السجادية أرقى معاني العبودية والتوحيد والأخلاق والتربية الإيمانية، لتصبح "إنجيل أهل البيت" وزبور آل محمد.
العلم ونشر المعرفة: كان مرجعًا علميًا في المدينة. رويت عنه الأحاديث في الفقه والتفسير والأخلاق، وحفظ تراث النبي (ص) وأمير المؤمنين (ع) والحسنين (ع) ونقله إلى تلامذته مثل أبي حمزة الثمالي.
الإصلاح الاجتماعي: اشتهر بكرمه وسدّ حاجة الفقراء سرًا ليلاً، حاملاً لهم الطعام على ظهره حتى لا يُعرف. ربّى جيلاً من المؤمنين الواعين على القيم الإسلامية الأصيلة.
٤. استشهاده: السمّ في طريق العبادة
التاريخ: اتفقت معظم المصادر (الشيعية والسنية) على أن استشهاده كان في محرم سنة 95 هـ(وقيل 94 هـ) في المدينة المنورة.
الجلاد: دسّ له السمّ الوليد بن عبد الملك الخليفة الأموي (بتحريض من والي المدينة آنذاك هشام بن إسماعيل المخزومي، حسب روايات شيعية وأخرى تاريخية).
السبب: خشية الأمويين من نفوذه الروحي والعلمي المتزايد، وتأثيره البالغ على المسلمين رغم حصاره، وخشيتهم من أن تتحول قيادته إلى تهديد حقيقي لسلطتهم الفاسدة.
الوصية والإمامة: أوصى بالإمامة من بعده لابنه الإمام محمد الباقر (ع) ، خامس أئمة أهل البيت.
٥. المكان والجنازة: بكاء المدينة
دُفن الإمام السجاد (ع) في البقيع في المدينة المنورة، في نفس المقبرة التي دُفن فيها عمه الإمام الحسن المجتبى (ع) وعمه الإمام محمد بن الحنفية وجده الإمام علي بن أبي طالب (ع) (حسب بعض الروايات)، إلى جانب قبر العباس بن عبد المطلب.
شيّعته جموع غفيرة من أهل المدينة، ولفّ جثمانه الطاهر ببردٍ كان يصلي فيه.
أدار مراسم الغسل والتكفين والصلاة عليه ابنه الإمام الباقر (ع) بحسب وصيته.
٦. آثاره وتراثه الخالد
الصحيفة السجادية: أعظم تراثه، وهي مجموعة من الأدعية والمناجات التي تغطي شتّى جوانب العقيدة والأخلاق والعلاقة مع الله، تُعدّ من أعظم الكتب الدينية أثرًا وأدبًا.
رسالة الحقوق: وثيقة عظيمة تُحدّد حقوق الله وحقوق الإنسان (حق النفس، حق اللسان، حق السمع، حق البصر، حق اليد، حق الرجل، حق البطن، حق الفرج، وحقوق الآخرين كالوالدين، الولد، الأخ، الزوجة، السيد والعبد، الجار، الصديق... إلخ) بشكلٍ مفصّل ومبهر في عصرها.
دوره التاريخي: حفظ الإسلام من الاندثار بعد كربلاء، وربّى جيلاً حمل راية العلم والمعرفة والتقوى في عصر الظلم الأموي، مهّد لظهور الإمام الباقر (ع) وابنه الإمام الصادق (ع) وانطلاق الجامعة العلمية الكبرى.
إمامية الصمود
يمثّل استشهاد الإمام السجاد (ع) استمرارًا لمأساة أهل البيت (ع) على يد الطغاة الأمويين. لم يقتلوه بسيوفٍ ظاهرة كما فعلوا بأبيه، لكنهم قتلوه خفية بالسمّ، خوفًا من صوته الذي ارتفع بالدعاء، ومن سكوته الذي كان أبلغ من الكلام، ومن علمه الذي أنار العقول والقلوب.
كان استشهاده شهادةً أخرى على أن نور الإمامة لا يُطفئه ظلم الظالمين، بل ينتقل ليواصل مسيرة الهدى والحق. سلامٌ عليه يوم وُلد، ويوم استُشهد، ويوم يُبعث حيًّا.
اضافةتعليق
التعليقات