معيار جودة الأفعال ليس بكميتها، بل بكيفيتها؛ فربّ فعل صغير صادق يترك أثرًا كبيرًا في العالم والنفوس، ويكون مقبولًا عند الله عز وجل.
لذلك، قبل أن نبحث عن "الكم"، يجب أن نبحث عن "الكيف"، وكل الأفعال تفقد جوهرها إن كانت لغير الله، ولم تنتسب إلى الإمام المعصوم، فهو ميزان أعمال أيّ فرد في أيّ زمان.
كما قال نبينا الكريم (صلى الله عليه وآله):
«من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية».
هذه الأعمال والأفعال كلها تكتسب الشأن والقيمة كلما كانت النيّة أقرب إلى رضا إمام كل زمان، في أي زمن من الدهر. فربّ أفعال تحمل اسم الله واسم أهل البيت (عليهم السلام) في الظاهر، ولكنها تكون فاقدة لمعناها الواقعي في الباطن؛ ربما تكون مجرد أفعال لنيل مكاسب الدنيا أو إشباع الأنا، وليس لها أي صلة بولي الله الأعظم ورضاه.
عبد الله بن حنظلة بن عامر، غسيل الملائكة، أنصاري من قبيلة الأوس، صحابي جليل توفي في السنة الثالثة للهجرة (3 هـ) خلال غزوة أُحد في جبل أُحد، لقّبه النبي (صلى الله عليه وآله) بـ"غسيل الملائكة" تخليدًا لفضله.
ولكن عبد الله ابنه، لم يكن كوالده صاحب مقامات رفيعة عند الله جل وعلا، كان من وجهاء المدينة، ولكنه كان ممن ترك نصرة ريحانة الرسول (صلى الله عليه وآله).
بعد واقعة كربلاء، كان على الجميع أن يقفوا ضد الظلم والظالم، ولكنهم تركوا الساحة، وبقي الإمام السجاد عليه السلام غريبًا. عاش الإمام السجاد (عليه السلام) في عزلة نسبية بصحبة أقرب المقرّبين، محدود التواصل مع العامة، وهو ما قلّل من التهديدات السياسية ووفّر له حماية ضد انتقام الأمويين.
اُستُخدم هذا الإبعاد الجزئي كفرصة لإلقاء دروس ومواعظ من خلف الأسوار. لم يكن الابتعاد مهجورًا فعليًا، بل كان خطوة استراتيجية لتحقيق توازن بين الظهور الاجتماعي والحذر السياسي.
في هذه الأثناء، حدثت في سنة 63 هـ، في عهد يزيد بن معاوية، واقعة الحرّة، التي سببها رفض أهل المدينة بيعة يزيد، بسبب فسقه وفساده وشربه للخمر.
فقاموا بطرد الوالي الأموي عثمان بن محمد بن أبي سفيان من المدينة، وقطعوا الطاعة ليزيد. بعد طرد الوالي، اجتمع أهل المدينة واختاروا عبد الله بن حنظلة قائدًا عامًا لهم،
فقال عبد الله:
«والله ما خرجنا على يزيد حتى خفنا أن يُرمي علينا السماء حجارة، إنه رجل ينكح الأمهات والبنات، ويشرب الخمر، ويدع الصلاة».
بعد أن أرسل عبد الله بن حنظلة وفدًا ليتأكد من ظلم يزيد وابتعاده عن الدين الحنيف، وعرف أن الشاميين يعيشون في النعيم ويحظون بالثروات، بينما أهل مكة والمدينة يعانون الفقر، جَنّد جنوده ليخرج ضد الحاكم الظالم.
ولكن السؤال الجوهري: أليس هذا هو قاتل سيد شباب أهل الجنة؟
أليس هو شارب الخمر و...؟
فلماذا لم يتبيّن أمر يزيد في ذلك الوقت عند مقتل سيد الشهداء (عليه السلام)؟
وهل ظهر فساده فجأة؟
أم أن الإنسان ينسى أين يجب أن يكون؟ مع ولي الله؟ ويقف ضد ظلم الظالمين؟
وعند ظهور الفتن التي تهدد حياته، يتذكر أن يتخذ موقفًا صارمًا ويدافع عن نفسه؟
هل لهذه النفس قيمة دون إمام زمانها؟
أم أن وجود بقية الله في حياتنا هو الذي يعطي المعنى لأفعالنا ونياتنا وأنفسنا وما نملك؟
لقد خسر جيش المدينة، ووقعت واقعة الحرّة المؤلمة، واستُبيحت المدينة على يد جيش يزيد الفاسق، الذي كان تحت قيادة مسلم بن عقبة، الذي سُمِّي بـ"مسرف" لسفكه الدماء.
وبعد أن فعل ما فعل، أمر الجنود بإحضار علي بن الحسين (عليه السلام)، وكان في أشد حالات البغض والكراهية لآل بيت رسول الله (صلى الله عليه وآله). فلما حضر علي بن الحسين السجاد (عليه السلام)، نظر الناس إليه وقد لاذ بالقبر (قبر النبي صلى الله عليه وآله) وهو يدعو، فأُتي به إلى "مسرف"، وهو مغتاظ عليه، فتبرأ منه ومن آبائه.
فلما رآه وقد أشرف عليه، ارتعد، وقام له، وأقعده إلى جانبه، وقال له: سلني حوائجك، فلم يسأله في أحد ممن قدم إلى السيف إلا شفعه فيه، ثم انصرف عنه.
فقيل لعلي (عليه السلام): رأيناك تحرّك شفتيك، فما الذي قلت؟
فقال:
"قلت: اللهم رب السماوات السبع وما أظللن، والأرضين وما أقللن، رب العرش العظيم، رب محمد وآله الطاهرين، أعوذ بك من شرّه، وأدرأ بك في نحره، أسألك أن تؤتيني خيره، وتكفيني شرّه".
وقيل لمسلم: رأيناك تسبّ هذا الغلام وسلفه، فلما أُتي به إليك رفعت منزلته!؟
فقال: ما كان ذلك لرأي مني، لقد مُلئ قلبي منه رعبًا.
وليّ الله له سلطة على الجميع، ومهما يفعل الظالم والمبغض، ففي النهاية يركع أمام هذه الهيبة الإلهية. والإمام بيّن في جميع المواقف أن الدعاء أعظم سلاح للمؤمن، وكيف أن المعادلات تتغير بواسطة الدعاء. وأن كل عمل دون رعاية الإمام المعصوم يكون مليئًا بالخسارات، وإن الإمام هو المنجي، والشافع، والمنقذ.
لذلك، يجب التركيز على جوهر الأعمال، وأن نعرض كل فعل، وقول، وحركة، على إمام زماننا، لنتأكد من صحتها.
وفي النهاية، نردد ونطلب من الله: "وامنن علينا برضاه، وهب لنا رأفته ودعاءه وخيره، ما ننال به سعة من رحمتك، وفوزًا عندك..."
اضافةتعليق
التعليقات