هذه حكايتي، حكاية الهجرة والندم المقرون بالألم، أضعها أمامكم بصدق الغريب الذي عاش العذاب في كل لحظة، إنها تجربة الهروب من البلد الأم، إلى بلد آخر، وأرض أخرى تصورتها (أرض الأحلام)، ويا للمفارقة المؤلمة، لقد اكتشفت بأنها أرض الآلام.....
أ هو ظلام الليل وعتمة الزمن، أم قسوة الحياة ومعادن الناس، والدنيا التي تخوض في البحث عن الفردوس والصراع المريب، ذهبتُ الى ذلك المكان لكي ارمي نفسي على أريكة واستعيد نظامي الذي سُرق مني في داخل بلد كثر فيه النفاق والوعود الكاذبة، بالتزامن مع كثرة أصوات الإنفجارات وصراخ الأطفال الذين تحيط بهم مخيلتي دائما.
وجدت نفسي أبحث عن الحرية والسلام مع نفسي، ومع من حولي، فوجدت نفسي ابحث عن استراحة من العتمة والضباب الذي ملأ حياتي، إلى نور الأمان والسلام والطمأنينة ودفئها، ولكن عندما ألقيتُ نظرة حول المكان الذي طالما حلمتُ به، وجدت نفسي في مكان زاد الطين بله، فتضاعفت غربتي وعذابي وآلامي، وهكذا عرفت بأنني شخص تائه لم يجد ما نوى البحث عنه كي يستريح فيه.. لأنني بعد هجرتي إلى الأرض الجديدة التي طالما حلمتُ بها، تركت روحي في بلادي وودعتُ أمي.. وتذكرت إنشادها الحنون بصوتها العذب، وأنا لم أزل طفلا في المهد:
_دلول يلولد يبني.. دللول.. عدوك بعيد وساكن الجول..).
ولكن من هو البعيد الآن؟ ومن هو الغريب، أنا الذي يعاني قسوة الغربة والوحدة والعزلة في هذه الأرض البعيدة التي تحرّك الذكريات، فتعيدني إلى أرضي الأم وطفولتي وشبابي وأصدقائي وأهلي، حتى رائحة الشاي والبرتقال والجوري تملأ صدري، وصوت أمي وأبي وأخوتي يسحبني عنوة إلى جذوري.
فقلت بيني وبين نفسي: سأعود الى الضباب الذي كان يرافقني.. لعلّي في يوم ما أعود إلى حياتي وتلك الأحضان التي كانت تمنحني الطمأنينة، فتصبح حياتي أجمل وأحلى وأكثر سعادة وأمان بوجود أمي ورضاها عني.. فهذا خير لي من أن أعيش بمفردي دون أن أرى أي شخص حولي رغم كثرة الناس بقربي، إلا أنهم غرباء لا أشعر بوجودهم ولا تعاطفهم معي وكأنني وحيد قي هذه الأرض الغريبة.. لأن صراخ الغربة أشدّ ما في مأساتي بعد سفري وهجرتي.
فقررت العودة الى المكان الذي طالما كان يزعجني، وأنا اردد مأساتي المتعددة في كل ركن فيه، ولاحظت أن الراحة ليست في أرض الغربة، وأنا في طريق العودة، كنت أتكلم مع نفسي، وأستشيرها: الي متى تبقى بعيدا عن وطنك، الى متى تبحث عن تراب غير ترابك؟؟......
وهكذا وصلت الى بلدي نادما، واستنشقت هواءه وعطر تربته، واحمرت وجنتاي خجلا.
إنني لا أستطيع أن انظر الى دجلة والفرات اللذين طالما رأيتهما، ثمة ضجيج في عقلي وصدري، ووجدت نفسي على خطأ جسيم، كيف تترك جذورك وأرضك وتاريخك؟، وصلت الى بيتي البسيط ورأيت بغداد أمي الحبيبة، رميت نفسي في أحضانها، ورأيت لهفة قلبها حين أكون بين يديها، فهي دائما تشفيني من حزني وحتى من أمراضي، ضمَّتني أمي بغداد إلى صدرها وقالت: صِفْ لي الغربة.
فقلت لها:
(غربة وغريب الدار يا يمة ظليت... ولشوفتج ملهوف يا يمة حنيت).
ثم قلت لها: الغربة أشبة بالموت، فكل يوم أجد نفسي وحيدا وسط الكل، وأصبحت لا افهم أحدا ولا أحد يفهمني، وصرت شاعرا يكتب بين الماضي والحاضر حنينه وأشواقه لأهله ووطنه، فوجدت بلادي هي الأجمل والأطيب، لو كل واحد منا رأى بلاده بهذا الشكل لا يغادرها أحد من أبنائها، لم يعد للبلاد رجال يا أمي، رجال الوطن مثل سور الحديقة الجميلة، لولا هذا السور تصبح الحديقة متاحة لكل من هبّ ودبّ، والكل سوف يقطف مايريد منها.
نحن من نصنع هذا البلد وندافع عنه.. ثم قلت لها: انشديلي يا أمي، أريد أن أنام على صوتك الذي لم يفارق ذاكرتي قط.
فقالت: (نام وبعد لتعود للغربة يمه... ما ترهم انته هناك يايمة ظلمة).
اضافةتعليق
التعليقات