خلفَ ذلك البابِ الرماديّ الرفيع تمتدُ غرفةٌ زواياها مرسومةٌ بميزانٍ من الدقةِ والانتظام.
يكسو سطح جدرانها الناعم بياضاً عاجياً يُضفي إليها مزيجاً من الصفاءِ والدفء، وزُيّنَ أحد جوانبها برفوفٍ مرتبةٍ بعناية تقِفُ عليها مجسماتٌ صغيرةٌ لأبراجٍ وجسور، ومكعباتٌ معدنية يعكسُ سطحها اللامع بريقَ مصباح الغرفة، كأنّ الضوءَ نفسَهُ جزءٌ من تصميمٍ دقيق!
على الجانبِ الآخر يتموضعُ مكتبٌ من الطرازِ الحديث تستقرُ على سطحهِ أدواتٌ هندسيةٌ باردةُ الملمس (مسطرة، منقلةٌ وفِرْجار...) بجوارها أقلامٌ تصطف في خطٍ مستقيمٍ صارم وأوراقٌ مصفوفةٌ بانتظام.
لا وجودَ للفوضى هنا، كلُّ شيءٍ مرتبٌ بإتقان!
السرير، خزانةُ الملابس ... كلُّ جزءٍ من هذه الغُرفةِ يعرِفُ مكانه.
لكن!
في خضمِ هذا الانسجامِ المثاليّ، كانَ في الغرفةِ ما يوحي بالنقص...
نقصٌ لا تُدرِكهُ الأعيُن بل تبحثُ عنه الأرواح!
أفاقَ سكونَ الغرفةِ صدى خطواتهِ الثابتةِ نحو الباب، فاتحاً إياه ليدخل وبيدهِ علبةٌ تحوي بداخلها ما كان يعتقدُ أنّهُ سيشغلُ النقصَ الذي يشعرُ فيه.
جلسَ على كرسيّ المكتبِ محاوِلاً فتحَ العلبةِ بحذرٍ مدروس، وأخرجَ منها لوحةَ تعريفٍ ذهبية، منقوشٌ عليها بخطٍ انسيابيٍ رشيق "المهندس أحمد".
صحيحٌ أنّهُ لم يتخرج من جامعته بعد، لكن لا يفصلهُ عن هذا اللقب سوى سنةٍ وبضعِ أشهُرٍ فقط ولن يتوانى في تقديمِ ما لديه من جهد وإن كانَ قد اعتادَ التفوقَ على أقرانِهِ في القسم.
سرعانَ ما ثبّتَ اللوحةَ بقاعدتها المُرفقةِ في العلبة ليضعها بثباتٍ فوق سطحِ المكتب، وغيّرَ اتجاه كرسيّه نحو أوراقه البيانية ليرى إن فاتهُ شيء استعدادًا لامتحانه المقبل في أساسيات التخطيط.
وما إن أكملَ فحصَ الأوراق ومراجعةِ النظريات والقوانين فإذا بصوتٍ يخرجُ ليزلزلَ كيانهُ من الداخل:
_هل أنتَ جاهزٌ يا أحمد؟!
في هذه اللحظةِ شُلَّ فِكرهُ عن التفكير واضطربَ حتى أحسّ برجفةٍ في بدنه.
_من.. من أنت؟!
عادَ الصوتُ مرةً أخرى ولكن بشدّةٍ أكبر!
_هل أنتَ جاهز؟
لم يكن يخطرُ في ذهنه استعدادًا سوى استعدادهُ لامتحانه.
لابدّ أنّهُ يقصدُ جهوزيّتهُ لهذا الأمر، فاختارَ أن يُجيبهُ وهو يلتفتُ يميناً وشمالاً علّهُ يجِدُ مصدرَ الصوت، ولكن دونَ جدوى.
_أنا جاهـ ..!
أحسّ بقوةٍ تسحبهُ وسطَ ظلامٍ أبعدَ من غيابِ النور.
ظلامٌ يقيّدُ صدرهُ وأنفاسه!
_أين أنا؟ أخرجوني، ضاقَ نفسي.
وبينما هو في هذا الصراع استطاعَ أن يلمح هيكلَ سجلٍ كبيرٍ على يساره!
(اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَىٰ بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا)
صدى تلكَ العبارةِ كان كفيلاً بأن يبدّدَ ما تبقّى من قوّته، ويجمّدَ كلامهُ في حنجرته.
لم يكن مستعداً !
بل لم يستعدّ مطلقاً لهذا اليوم.
_يا حسرتي على ما فرّطتُ في جنب الله ..
وماهي إلا لحظاتٌ حتى فُتِحَ السجلُ أمامه ليرى اسمه في أول الصفحة، بجوارهِ عبارةٌ كُتِبت بخطٍ غليظٍ فاضح "تاركٌ لصلاته"!
أرادَ أن يتكلم عن انشغالهِ في الدنيا ولكن تلاشت أعذارهُ بصورٍ عُرِضت عليه، واحدةٌ تلو الأخرى..
رأى زميله يرشدهُ إلى الصلاة، مذكّراً إياه عن أول ما يُسألُ عليه العبد يوم الحساب!
ثم مرّ بجوارِ المسجد فرأى الجمعَ ملبّين نداءَ ربهم دونه!
وصورةٌ أخرى ظهرت لهُ أثناء تصفّحه هاتفه، فبدت له ملامحُ شيخٍ يتحدثُ عن عقوبةِ تارك الصلاة، لكنّهُ سرعانَ ما تجاوزَ المقطع بمجردِ قراءةِ عنوانه.
كلها كانت فرصاً ووسائلَ تحذيرٍ وهدايةٍ في دُنياه، لكن هاهيَ حجّةٌ عليهِ يومَ الحساب.
أطرقَ رأسهُ نادماً وعيناهُ غارقتانِ بدموعِ ندمه.
_هل لي بفرصةٍ أخرى يارب؟
فرصةً واحدةً فقط...
( كَلَّا ۚ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا ۖ)
سُحِبت قدمهُ بقوةٍ لا تُعيقها مقاومته.
_أينَ تأخذوني؟ الأرضُ حارقةٌ هنا كفّوا عن سحبي.
استمرّ في الصراخِ والرجاء ولكن ما من مجيب، كمن يصرخُ في رحمِ أمهِ دونَ جدوى!
_يا الله
توقفَ من كانَ مسؤولاً عن سحبهِ لمأواه، قائلاً له:
_هل تريدُ لقاءَ الله بعد أن رفضتَ لقاءهُ في دُنياك، ألا تخجل من نفسك!
وواصل مهمّتهُ في السحب حتى انتهى به في موضعٍ يشرفُ عليهِ تسعةَ عشر ملكاً.
وبينما جلده يتقشّرُ من حرارةِ المكان، اخترقَ أُذُنيه صراخُ مَن في المكان، ليُسألونَ وهم بهذا الحال:
(مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ)
شعرَ بيدٍ دافئةٍ تهزُّ كتِفهُ برفق
_أحمد.. أخي أحمد
جلبتُ لكَ القهوةَ التي طلبتَ مني تجهيزها فورَ قدومك، ثمّ لمَ أنتَ نائمٌ بهذا الوضع؟ ما فائدةُ السريرِ إن كانَ نومكَ على المكتب.
تسمّرَ أحمد أمام أختهِ رؤى، وإن لم يُركز بما قالته له، إلا أنّهُ فهِمَ بأنّ الأوانَ لم يفُت بعد..
اتّسعَ احمرار بياضِ عينيه ليسألها:
_كم الساعة الآن؟!
_العاشرة.
نهضَ بكلِ قواه يتخبطُ باحثاً من زاويةٍ لأخرى، من خزانته إلى ما تحتَ السرير...
ولكن لم يجِد ما يبحثُ عنه!
فأخذَ معطفهُ مهرولاً خارجَ الغرفة، تاركاً أختهُ بحالةٍ من الذهولِ والاستغراب، فلحِقت به لتستوضحَ منهُ شيئاً:
_إلى أين تذهب في هذا الليل؟
_سأذهبُ للمسجد
_مسجد ؟!
توقف .. ماذا عن قهوتك؟
_إشربيها أنتِ.
_وامتحانك يا أحمد؟
_نحنُ الآن في مَيدانِ الامتحان يا رؤى!
إلى اللقاء.
_نحن؟! وما شأني أنا في امتحانه؟
الهندسةُ أذهبت بعقلِ الفتى.
في الجانبِ الآخر يسيرُ الشوق بأحمد نيابةً عن قدميه، يُسرِعُ في خطواتهِ كمن يُطاردُ لحظاتَ عمرهِ الضائعة، حتى وقفَ أمامَ ذلك المسجد وهو يحتضنُ شهيقاً يحطّمُ به ضلوعَ تقصيرهِ في الماضي.
توضّأ في الممر قاصداً طهارة قلبه قبل جسده، ودخل المسجد بخجلِ عبدٍ في قصرِ مولاه!
في الوقتِ ذاته همَّ صبيٌّ بالخروجِ من المكان وحينَ التقت عيناه بالصبي ناولهُ الأخير كتاباً أحمر مكتوبٌ على غلافه
(مفاتيح الجنان).
قائلاً له: لا شكّ إنكَ تريد قراءة دعاء كميل ولكنّ الناس في الجامع أنهوا قراءتهُ للتو، ستضطر لقراءتهِ وحدك.
_دعاءُ كميل!
سمِعَ باسم هذا الدعاء ولكن لم يسبق لهُ قراءته، فاختارَ زاويةً من زوايا الجامع وبدأ يقرأهُ بتأنٍ شديد، كلمةً كلمة، فتأرجحت أحاسيسه من مقطعٍ لآخر بين الخوفِ والحب، والإشتياقِ والضعف، والرجاءِ والأمل.
وعلى حالهِ هذه، تقدّمَ نحوهُ شيخٌ بخطواتٍ بطيئة، متّكئًا على عكازةٍ من الخشبِ العتيق، وقسَماتُ وجهه تمتلئُ نشاطاً وحيوية رغمَ التجاعيدِ التي آثرها الزمنُ على وجهه بلحيةٍ بيضاء تزيدهُ هيبةً على وقاره، وبيدهِ اليُسرى قطعةُ قماشٍ مغلفةٌ بغلافٍ يُخفي تفاصيلها.
_هل تحتاجني لأمرٍ ما يا شيخ؟
_حفِظكَ الله ورعاكَ يا ولدي جئتُ لأُعطيكَ هديةً من حاجٍ تحمِلُ عبقَ عُمرتهِ المباركة.
لم يتردّد في استلامها للحظة، وأخذَ يتفحّصُ محتواها ليجدَ بداخلها سجادةً بُنّيةَ اللون، تُؤطّرها خيوطٌ ذهبيةٌ ناعِمة وبجانبها مسبحةٌ بخرزٍ بيضاءَ صغيرة.
ضمّ السجادةَ إلى قلبهِ وقال بصوتٍ متهدّج:
_اكتملَ مالم يكُن مكتملاً لسنوات..
ابتسمَ الشيخُ قبل أن يرحل، موصِياً إيّاه:
_اجعل صلواتكَ بها تأمركَ بكلِ معروف وتنهاكَ عن كلِ منكر يا بني.
_بعونِ الله يا شيخ، حفِظكَ الله وأطالَ في عُمرك.
أشاحَ ببصرهِ نحو الدعاء وعزمَ أن يستأنِفَ الوصالَ بين سطوره، مستكملاً ما توقّفَ عنده:
(هَيْهاتَ أنتَ أَكْرَمُ مِنْ تُضَيِّعَ مَنْ رَبَّيْتَهُ)




اضافةتعليق
التعليقات