في أحلك الظروف كما في أبلجها؛ تصطف بداخلي آلاف الكلمات مكوِّنة سطورًا وسطورًا في طوابير بلا نهاية، تنتظر بامتعاض أمام بوابة البوح، كلما اشتد بيَّ الزحام وتعالت الأصوات أهرع على مضض لفتح هذه البوابة الموصدة بإحكام، فتخرج تلك الجموع الثائرة من الحروف كسيلٍ جارف؛ تارةً تُلقي بنفسها على الأوراق، وتارةً تُزَج في وجه من يستحقها، وحينها تبدأ حكايات جديدة تجعل مني أنثىً واعية بزيادة، واثقة بريادة، وقوية أكثر من السابق، كما ومصمِّمة على الكتمان من جديد، ولأن الندم يشبه كل شيء في مسألة التكرار إلا أنه يعلمني في كل مرة درسًا عظيمًا، فأعود لأختار الصمت بدل الكلام وقت الأزمات، وبفضله أجد الحلول السهلة الممتنعة!..
منذ صغري؛ لطالما كنت أحلم أن أحيا بتفرُّد، لم أرد يومًا أن تُشبه حياتي حياة العامة، كنت أرى أنني مختلفة تمامًا عمّن حولي وأقول في قرارة نفسي: لا يمكن أن أتصرف هكذا لو واجهت مثل هذا الموقف أو كهذه المشكلة، إنما سأكون أكثر صبرًا وحكمة، سأصبر على الأذى، فإن نبينا الأكرم ﷺ قال: «المؤمنُ الذي يُخالِط الناسَ ويصبر على أذاهم خيرٌ من المؤمن الذي لا يُخالِط الناسَ ولا يصبر على أذاهم».
ولطالما صبرت وتحملت ما لا يُطاق حتى انهارت قواي ونفدت طاقتي، فذاك القلب الطيب ما عاد طيبًا بصفة مطلقة مع جميع الخلق بلا استثناء كما كان لعهود..
بيد أنني أدركت مؤخرًا، وفي هذا الزمان تحديدًا، صحيح أن الكتمان درع يحمي صاحبه، ولكن من الضربات الخارجية فقط ولوقتٍ قصير للحد من تفاقم المشكلة في حينها، بينما يجعل داخل النفس ما يحدث لاحقًا أشبه بحربٍ عالمية؛ صراعات بين الرفض والقبول، ولومًا على ما سيحدث من استهانة المقابل في المرات القادمة، وآلامًا ومخاوف و خيبات تجتمع ضمن معارك ضارية متوالية لا رحمة فيها ولا عدالة!.
تلك الضربات الداخلية الصلدة، تُصدِع جدران القلب الطيب، فيعتصر قهرًا وتجف فيه إكراهًا ينابيع من الرحمة والحب والمودة، لأن صاحب ذاك القلب الذي يملك طراوة داخلية لا تفسد بسهولة، ليس ملاكًا، ولا كاملًا، ولا يعيش حياته متسامحًا بلا حدود، إنما جوهره نظيف، يشعر بالآخرين قبل أن يتكلم معهم وعنهم، يختار الرحمة حتى لو كان أمامه ألف سبب ليكون قاسيًا، لا يفرح بأذى أحد، وإذا غضب يعود للّين بسرعة كونه لا يستطيع العيش بقسوة طويلة، لا يحمل الضغينة إلا في وقتها حيث يُتلقَّى الأذى، وبعد وقتٍ قليل يتعب منها ويرميها، فالقلب الطيب شهادة حسن سيرة وسلوك، وهو طريقة الشخص في التعامل مع الحياة؛ فلا يرد الإساءة بالإساءة ولا يسمح للمرارة أن تأكله من الداخل..
قال تعالى في محكم كتابه الكريم من سورة الحج آية (24):
{وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ}.
ومن الغريب والعجيب؛ كل الناس يقولون عن أنفسهم إن قلوبهم طيّبة مع عدم معرفتهم الصحيحة لمفهوم القلب الطيب! فيأتي هناك من يختلف معك وعليك بصورة شنيعة وبسرعة البرق في الرأي أو الموقف، وإن كنت أقرب الناس إليه، يعلو صوته بوجهك، يرفض سماعك، ويوجّه إليك أصابع الاتهام، يتجاوز عليك أحيانًا أو غالبًا، ومن ثم يحكم عليك بغير برهان وينهي الجلسة لصالحه، تنظر إليه فتجده يستمتع بنشوة الانتصار وأنت تصمت بلا معين!.
لا تمر إلا ساعات أو بضعة أيام حسب خاصية الوقت لديه، تجده عاد نادمًا و”معتذرًا إن استطاع” عما بدر منه بحجة العصبية التي تتملكه، وهو بريء مما فعل ونصف الحق عليك إن لم يكن كله! وأن (قلبه طيب) لا يستطيع مخاصمتك طويلًا على حد ما يريد إيصاله.. إنما الحقيقة التي لا يود أن يعترف بها؛ أنه عاد كونك لا غنى عنك بالنسبة إليه، وحاجته إليك ليست رفاهية، بل يجب أن تكون له ومعه على الدوام بغض النظر عن كل شيء حدث ويحدث بينكما، لذلك يعود مرغمًا بكامل إرادته!.
ومن الممكن أنه فعلًا لا يدرك أن صاحب القلب الطيب لا يجرح من الأساس وغير قادر على الأذى، بالأصل لا يختلف مع من حوله بشكل سيئ، إنما يوضح ما يشعر به بكل ود وشفافية، وإن صار وبدرت منه ولو كلمة أو ردة فعل جارحة تكون غير متعمدة ويتضح عليه ذلك، ثم إنه يتداركها في نفس اللحظة، حيث لا يزال نقيًا قويًا لم يتعرّض لمواجهات شديدة وانكسارات صاخبة بعد، تهز أرضية قلبه المستوية وتجعلها تتفطّر..
ومن المؤسف صدقًا؛ حينما تواجه من يتوهّم طيبة القلب بحقيقته، يثور مصدومًا مظلومًا معاتبًا، ولسان حاله يقول: كيف لا أكون طيب القلب وأنا أندم بسرعة، حتى وإن تأخرت، أعود لإصلاح خطئي خصوصًا مع من أُحب. (والندم هنا شرحنا أسبابه آنفًا). وأبكي حتى حينما أرى مشهدًا تمثيليًا مؤثرًا. (والسبب هنا تغلّبه العاطفة وليس طيبة قلب!) وأساعد من يطلب مني المساعدة بمقدار ما يريد. (والسبب هنا حبه للشعور بالمقدرة والقوة).
فصاحب القلب الطيب لا ينتظر أساسًا من المحتاج أن يطلب ما دام عارفًا بفقره، إنما يساعده مباشرةً بأكثر مما يحتاجه لسد رمقه، ولا يحسّسه بالفضل!..
ثم إنه يتحمل الأذى عن الآخر، ويُضحي بلا انتظار مقابل، ولا يهمّه الربح قدر ما يؤرقه الشعور بالتقصير والخسارة، فكيف لك أن تقول (قلبي طيب، وأُعاني من طيبة القلب) وأنت معتاد على أن تؤذي وتجرح وتندم وتُعيد الكرة! وتبكي على مشهد مؤثر وأنت تُشبه الجاني! تساعد المحتاج لتتباهى وتتفاخر! وقد تفعل كل شيء لغرضٍ ما وليس لوجه الله تعالى!..
فيا من تدّعي طيبة القلب، اجلس وتصارح مع نفسك وكن صادقًا معها على الأقل؛ هل أنت كذلك حقيقةً أم وهمٌ تتبنّاه!.








اضافةتعليق
التعليقات