لم يعد العالم التربوي اليوم يشبه ذاك الذي نشأنا فيه قبل ثلاثين أو أربعين عامًا لقد تغيّرت المفاهيم، وتشابكت التأثيرات، وتزايدت التحديات التي تواجه الآباء والمربّين، حتى بات من الصعب أحيانًا الإمساك بالخيط التربوي وسط زحام المتغيرات الثقافية والاجتماعية والتقنية.
إذا كانت التحديات التي واجهها آباؤنا قد اقتصرت على حدود البيئة والمجتمع المحيط، فإننا اليوم نواجه تربية عابرة للحدود والجغرافيا، مفتوحة على ثقافات لا تُعدّ ولا تُحصى، يأتي بها الهاتف المحمول، وتبثّها الشاشات، وتؤسس لها مواقع التواصل الاجتماعي في أذهان أبنائنا دون استئذان.
في الزمن الماضي، كان الأب أبًا، وكانت الأم أمًّا كانت الهيبة حاضرة، والصوت مؤثرًا، والتوجيه مباشرًا، لا نقاش ولا جدال كان البيت حرمًا تربويًا له قوانينه الواضحة، وللمربّي فيه كلمة لا تُرد.
أما اليوم، فقد تغير المشهد أصبح كثير من الآباء يطمحون إلى أن يكونوا "أصدقاء" لأبنائهم، وقد يكون ذلك بنيّة طيبة، لكنه – كما تُظهر الدراسات – أدى إلى تفكك المعايير التربوية، وغياب المرجعية الأبوية الحازمة.
تشير دراسة نشرتها مجلة Child Development (2021) إلى أن غياب الحدود الواضحة بين الوالدين والأبناء يخلّف آثارًا نفسية معقدة على الطفل، منها ضعف الالتزام، وتزايد السلوكيات المعارضة، وانخفاض القدرة على ضبط الذات وتبيّن الدراسة أن الأطفال الذين ينشأون في بيئات أسرية بدون قواعد واضحة، يعانون من التشتّت وضعف الانضباط الذاتي بنسبة تصل إلى 40٪ أكثر من أقرانهم.
ولا شك أن التكنولوجيا سلاحٌ ذو حدين، لكنها في مجال التربية – حين تنفلت من الرقابة – تتحوّل إلى تهديد حقيقي تقتصر المشكلة على وقت الشاشة الطويل، بل تتجاوزها إلى "الرسائل الثقافية الخفية" التي تنقلها البرامج، والألعاب، ومنصات التواصل، والتي تزرع في وجدان الطفل مفاهيم فردانية، وتمردًا على الأسرة، وتعريفًا مشوّهًا للحرية.
وقد حذّر تقرير صادر عن منظمة UNICEF (2022) من تنامي ما يُسمّى بـ "الفجوة الرقمية التربوية"، والتي تحدث عندما يتعرّف الأطفال على أفكار وقيم خارج سيطرة الأسرة والمدرسة، فيؤسسون هويتهم بناءً على مصادر غريبة عن بيئتهم الثقافية والدينية.
من المسؤول؟
الحقيقة أن المسؤولية مشتركة، فالتحول ليس فقط في طبيعة الطفل، بل أيضًا في ضعف استجابة الأهل لهذه التغير لكثير من الآباء والأمهات، مع الأسف، لا يطوّرون أدواتهم التربوية، ولا يجددون معرفتهم بأساليب التربية الحديثة، ولا يطّلعون على نفسية الجيل الجديد.
كما أن ضعف الشخصية الأبوية، والانشغال، وغياب التوجيه المستمر، جعلت من الطفل "مشروع متمرّد"، يرفض الانضباط، ويجادل بلا حدود، ويسعى لصياغة قوانين منزله بحسب رغباته.
نعم، أولادنا تغيّروا، لكننا كذلك تغيّرنا، وربما لم نواكب حاجاتهم كما تنبغي التكنولوجيا، وتبدل الثقافة، والانفتاح غير المنضبط، كلّها عوامل ساهمت، لكن غيابنا عن المشهد التربوي الفعّال هو العامل الأخطر.
فإذا أردنا إنقاذ الجيل، فلا بد من العودة إلى التربية الواعية، المتوازنة، المستنيرة بنهج أهل البيت (عليهم السلام)، والمبنية على الحب، والحزم، والمعرفة.
اضافةتعليق
التعليقات