الحديث عن الامام الحسين (عليه السلام)، كحال الحديث عن سائر أولياء الله، له بُعدان:
بُعدٌ يرتبط بشمائلهم وأجسامهم وأمور دنياهم، وبُعدٌ يرتبط بشخصياتهم وأرواحهم وما يتعلّق بآخرتهم.
ففي البُعد الأول، لا يختلف الأنبياء والأولياء عن سائر الناس؛ فأجسامهم كأجسام الآخرين، لهم يدان ورجلان، وعينان وأذنان، ويجوعون ويعطشون، ويمرضون ويموتون كما يموت غيرهم.
أما شخصياتهم، فتختلف تمامًا، لأنها ترتبط بعالم الأرواح، وعالم الغيب، ولا حدود لهذين العالمين.
يقول الله تعالى مخاطبًا نبيه:
﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ﴾.
فالجانب الروحي والمعنوي في الإمام الحسين، كما في سائر الأولياء، هو ما يميزهم عن الآخرين.
إنّ الحسين حقيقةٌ عُظمى، لا يتعرّف أحد على صفة من صفاته إلا ويراه أفضل قدوة يتّخذها في حياته؛ فللحسين عند ربّه علوُّ مكانةٍ لا يملكها إلّا الأنبياء والأوصياء.
بعض المسيحيين يرون وجه عيسى ابن مريم في الحسين، وقد قال أحدهم حينما زار كربلاء في زيارة الأربعين:
"في كربلاء اكتشفتُ وجه السيّد المسيح في وجه الحسين (عليه السلام)"، مع أنه كان قسّيسًا يدعو إلى المسيح طيلة حياته، لكنه لم يكتشفه كما ينبغي، إلّا عندما زار الحسين.
ومن الواضح أنّ حياة هذا الإمام العظيم لا تُختزل في يوم عاشوراء، وإن كانت تجلّيات روحه فيه كالشمس في رابعة النهار، إلا أنّ المقدمات هي التي أدّت إلى تلك النتائج؛ فالحسين عبدٌ لله في كل حياته، بكامل العبودية، سلّم له كمال التسليم، وأطاعه طاعةً مطلقة، وذاب في الإيمان ذوبًا كاملاً، فصاغه الله صياغةً ربّانية، جعلت منه هذا الطود الشامخ، الخالد مدى الدهر.
وهكذا، فإن الحسين (عليه السلام) هو مدرسةُ جميع الفضائل؛ فهو مدرسةُ الإيمان، والإيثار، والتضحية، والعطاء، والرضا بقضاء الله وقدَره.
إنه مدرسةٌ تتجاوز حدود الزمان والمكان، وتنعكس على فطرة جميع الناس باختلاف دياناتهم ومشاربهم، حتى ينظروا إليه نظرةً تختلف عن نظرتهم لسائر الأولياء.
ويكفي أن نقول: إنّ جميع ما جاء به النبي (صلى الله عليه وآله) من عند الله في كتابه الكريم من صفات المؤمنين في حياتهم ومماتهم، تنطبق على الحسين عليه السلام قطعًا.
بحيث يمكن القول: إذا لم يكن الحسين مظهرًا صادقًا لتلك الصفات، فلا يوجد مظهر آخر لها.
انظر إلى قول الله تعالى:
﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا، بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ﴾.
ألا ترى أن هذه الآيات تنطبق على الحسين (عليه السلام) تمامًا؟
وقد ورد في الحديث عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال:
«أهدت لنا أُمّ أيمن قعبًا من لبنٍ وزُبدًا وصحفة تمرٍ، فتوضّأ رسولُ الله ﷺ، ثم قام واستقبل القبلة، فدعا الله ما شاء الله، ثم أكبَّ إلى الأرض بدموعٍ غزيرةٍ كالمطر. فهُبْنَا أن نسأله.
فوثب الحسين (عليه السلام) وقال: يا أبتِ، رأيتُك تصنع شيئًا لم تصنع مثله!
فقال ﷺ: يا بُنيّ، إني سُررت بكم اليوم سرورًا لم أُسرَّ بمثله، وإنّ حبيبي جبرئيل أتاني وأخبرني أنكم قُتلى، وأنّ مصارعكم شتّى، فدعوتُ اللهَ لكم بالخيرة.
قال الحسين (عليه السلام): يا رسول الله، فمَن يزورنا على تشتّتنا ويتعهّد قبورنا؟
فقال ﷺ: طائفةٌ من أمتي يريدون بِرّي وصِلتي، إذا كان يوم القيامة زرتهم، وأخذتُ بأعضادهم فأنجيتُهم من أهواله وشدائده».
أما مقتل الحسين (عليه السلام)، فهو فضيلةٌ عظمى تُضاف إلى فضائله، وبنصف هذا الحديث، فإنّ كلّ ما جرى عليه كان مكتوبًا عند الله عزّ وجل، وقد أخبر به سيدُ رسله.
من هنا، نجد أنّ النبي ﷺ كان يبكي على الحسين ومقتله منذ ولادته، بل وحسب التاريخ، كان إذا مشى في طرقات المدينة ووجد الحسين، تعقّبه حتى يُمسكه، فيُقبّل مواضع غير معتادة في تقبيل الأب لأولاده؛ كأن يُقبّل حنجرته، أو يديه، أو رأسه.
وحينما سُئل عن ذلك قال:
"إنما أُقبّل مواضع السيوف"
لقد اختار الله الحسين (عليه السلام) قربانًا في أرضه، كما جعله حجته على عباده، وشفيعًا للناس يوم القيامة، وسيّدًا لشباب أهل الجنة، وقدوةً وأسوةً لجميع المؤمنين.
وقد قال النبي ﷺ في حقه وحقّ أخيه، وهما صغيران:
"الحسن والحسين إمامان، قاما أو قعدا".
فكان السبطان منذ طفولتهما إمامين ربّانيين مفترضي الطاعة، كما كانا سيّدين في الدنيا، وزعيمين لأهل الجنة إلى أبد الآبدين في الآخرة.
اضافةتعليق
التعليقات