في زاوية هادئة من حديقة الجامعة، جلست سارة تتأمل أوراق الخريف وهي تتساقط ببطء، وكأنها تريد أن تروي سراً للأرض قبل أن تحتضنها.
وللحظة لَفت انتباهها مظهرُ مريم التي جائت من بعيد صديقتها المقربة والتي كانت تتأثر بما يُطرح في المواقع ويُرى في الواقع. بمظهرٍ لا يعرف من الحشمةِ شيء وقد بدا في عينيها بريق تحدٍ واضح.
قالت مريم بشكلٍ مباشر وهي تحمل شيئاً من الثقة:
سارة، أعرف أنكِ ستتفاجئين من مظهري ولكن ألا ترين أن زمن الحجاب ولّى؟! العالم اليوم يرى الجمال من زاوية أخرى، ويجب علينا نحن كبنات متعلمات ومثقفات أن نواكب ما يطرح من الموضة وإلا فسنواجه كثيرا من الاستهزاء وحتى السخرية من البعض وهذا ما نلاحظه أنا وأنتِ، ومن الصعب أن نبقى على ما اعتدنا عليه.
باستغراب وقليل من الذهول قالت سارة:
لن أسألك عن شيء فقط أقول كيف جعلت أهلك يذعنون ويوافقون على أن تخرجي بهذا المظهر وكما أعرف أن أهلك ملتزمين ومطبقين لتعاليم الدين بشكل تام؟
ضحكت باستهزاء وقد وضعت قدمها على القدم الأخرى وهي ترمي بوشاحها على كتفها ثم قالت:
وهل للأهل كلام إن تكلمت أنا المتعلمة وإن كانواهم قد تعلموا ولكن يجب عليهم أن يذعنوا لنا لأننا خُلقنا لزمانٍ غير زمانهم ويجب أن يراعوا مشاعرنا والحرية التي نريدها.
ابتسمت سارة بهدوء ثم أجابتها بصوتٍ رزين:
الحرية يا مريم ليست في أن نخلع عنا كل ساتر، بل في أن نرتدي ما يحفظ كرامتنا قبل أجسادنا. الحجاب ليس قيداً، بل هو ثوب نسجه الدين من خيوط الأخلاق والإنسانية، وزيّنه بمكانة المرأة التي شرّفها الله، وخصّها بصفات لا يملكها سواها. حين ننزعه بلا وعي، لا ننزع قطعة قماش فحسب، بل ننزع قيمة أنفسنا، ونقايض روحنا بثمن بخس.
سكتت مريم، وغابت نظرتها للحظات في الفراغ، كأن كلمات صديقتها أيقظت شيئا ما في داخلها، ولكنها تجاهلت ذاك الشعور وأخرجت المرآة من حقيبتها مع قلم الحمرة لتُعيد ترتيب شكلها.
ابتسمت سارة وهي ترى أن مريم لم تعير لها أي أهمية ولم تسمع صوتاً سوى صوت الحقيبة وهي تفتحها، ثم أضافت:
أعلم أن كلامي غير مسموع ولكن عليكِ أن تُدركي شيء وهو أن الثقافة ليست لمواكبة ما يُطرح بل بما تحملين من أخلاق وعقيدة قوية وراسخة يا عزيزتي.
من هُنا يأتي السؤال لماذا بدأت الثقافة تعرف بالتعري ومواكبة الموضة وكيف دخلت إلى بيوت الملتزمين دينيا؟
وكأن المسافة بين الأمس واليوم لم تعد تُقاس بالسنوات، بل بالتحولات التي عصفت بالقيم والمفاهيم. فالبيت الذي كان يحيط ابنته بأسوار من التحفظ والحياء، صار اليوم يفتح نافذة لما يُسمّى "الحرية" تحت عناوين جديدة، يبرّرها ضغط المجتمع، أو وهم مواكبة العصر. إنهم أهل لم يتخلّوا عن التزامهم الديني في الظاهر، لكن الزمن استطاع أن يتسلّل إلى عقول الأمهات وحتى الملتزمات منهن، ويعيد ترتيب الأولويات، ويغلف الأمر بمسوغات نفسية واجتماعية، حتى غدا ما كان مرفوضاً بالأمس مقبولاً اليوم.
إنها لحظة تتجسد فيها فلسفة التغيّر: ليس كل تغيير ارتقاء، فقد يكون أحياناً انزلاقاً يتخفّى خلف شعارات براقة، حتى لدى أكثر البيوت تمسكاً بالدين.
إن قضية التعري ليست مجرد أزياء أو موضة عابرة، بل هي انعكاس عميق لما يمر به مجتمعنا من صراع بين الأصالة والحداثة. فبينما نرفع شعارات الحرية الفردية، نجد أنفسنا ننجرف نحو فوضى لا تعرف الحدود، حتى باتت الحشمة قضية ثانوية لا تليق بزمن السرعة والانفتاح. هذا الانفتاح المفرط، الذي وصل إلى عتبات البيوت التي عُرفت بالتزامها، ساهم بشكل مباشر في إضعاف روابطنا العقائدية وغيّب قدواتنا التاريخية.
لقد غابت عنّا سيرة السيدة الزهراء، وزينب، ومريم العذراء، ونساء خالدات جعلن من حشمتهنّ تاجاً وعزّة، لا قيداً وظلماً. وفي ظل هذا التجاهل، باتت أجسادنا ساحة للصراعات الفكرية والاجتماعية، تُعرض بحجة الحرية، وكأن الحرية الحقيقية تكمن في التخلي عن القيم والأخلاق.
إننا بحاجة ماسة إلى مراجعة شاملة لمفهوم الحرية، وأن ندرك أن الحرية الحقيقية هي تلك التي لا تتجاوز حدود الأخلاق والقيم، بل تسمو بها. الحرية التي تجعلنا أكثر إنسانية، لا أقل حشمة.
إن الحجاب ليس مظهراً فحسب، بل هو هوية وقيمة، ودرعٌ يحمي جوهر المرأة من أن تُختزل إلى مجرد صورة عابرة في أعين الناس.
اضافةتعليق
التعليقات