نحن والعديد من الناس ارتسم في مخيلتنا شهر رمضان بأنه مائدة عامرة بأصناف متعدّدة من الطعام، قد تكفي عشرات الأسر، وفي هذا العام أخذ البعض على أنفسهم عهداً بأن تتميز مائدة شهر رمضان بالبساطة والتواضع والتراحم، بحيث لا تختلف عن المائدة التي يعدّونها في أوقات السنة.
هذه قمة الحكمة، فمنَ الذي له الاستعداد أن يكون حكيماً؟
(ميساء شعيتو/ مستشفى الزهراء، لبنان، حديثة عهد بالزواج، فهذا ثاني شهر رمضان تمضيه مع زوجها، ولقد اتفقت معه هذه السنة أن تكون مائدة شهر رمضان هذا العام بسيطة وصحية بشكل لا يختلف عن الأيام العادية، تقول: أنا بطبعي لا أحبّ الإسراف امتثالاً لقول الله تعالى: يَا بَنِي آَدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ/ (الأعراف:7).
وسألناها إذا ما كانت تعتمد أسلوب الإدارة نفسه عندما يدعو زوجها أحد أصدقائه إلى مائدتها الرمضانية، فأجابت: العرب من طبعهم الكرم، فما بالنا ونحن في ضيافة ربّ العالمين في شهر رمضان، فتتنوع الأصناف في مائدة الضيافة؛ لأنه دائماً وأبداً لي ضيوف، وهم الجيران وبعض الأسر المتعفّفة، إلى جانب ذلك فإنّ جاري الجنب أسرة شهيد، وهذا بحدّ ذاته فضل من الله.
وفي محاولة منها لمسك العصا من الوسط تقول (ندى زهر الدين/ ربّة بيت): لا يمكن أن تكون مائدة شهر رمضان عادية، فنحن ننتظر هذا الشهر الكريم بفارغ الصبر، ونتشوّق إلى كلّ ما فيه من معانٍ سامية. فبالنسبة إليها قررت أن تعتمد مبدأ الاختصار في المشتريات من باب التدبير والاقتصاد وليس حرم الأسرة، أمّا المعضلة التي تمكنت من حلّها فهي كيفية التحكم في مائدة الولائم، بحيث تكفي المدعوين، وتكون قيمة الضيوف حاضرة.
طابع خاص
وحين بسطنا تساؤلاتنا أمام (زيد زاهد/ إداري في جمعية التعاون الخيرية) كانت الإجابة: وهل تختلف أيام شهر رمضان عن الأيام العادية بالنسبة إلى جمعية تُعنى بالأيتام، ففي كلّ عام ومنذ نشأة الجمعية نسعى إلى جعل شهر رمضان شهراً يمتاز بطابع خاص، له ثقافته التي نريد ترسيخها لدى الأيتام إلى جانب التوعية الثقافية لأفراد المجتمع، ففي هذا العام قام فريق الجمعية بعمل دراسة مفصلة عن شهر رمضان والعبر التي نريد أن نحظى بها منه، إذ نواجه فئة عمرية تحتاج إلى الحنان والاحتواء وترسيخ الثقافة الدينية والاجتماعية، فكان مقترحنا هذا العام أن يكون الإفطار في بيوت المتبرعين المشاركين، فمن خلال هذه الخطوة نجعل من اليتيم مشروع إنسان متحضّر ذي ثقافة تحمل طابع العطاء والمساواة في المستقبل، وقد تكون سبباً من أسباب التواصل بين المتبرعين والأيتام وإيجاد حلول للمشاكل التي تواجههم.
إضافةً إلى الآداب التي نسعى إلى ترسيخها لدى الأيتام، كما وأننا نرى أن أحد أسباب تغيير الحياة التي يعيشها الطفل اليتيم قد يكون في اتخاذ أحد هؤلاء المتبرعين مثلاً أعلى لهم.
التعليم يزرع ويصنع وطناً
من طرفها تعتمد (زينب هادي إحدى المنتميات إلى فريق مجموعة شبابنا النسوية)، على ثقافة الحوار وتقديم الدراسات الدورية، لتكون الدراسة هذا العام تقديم توعية تخصّ شهر رمضان وأهميته، إذ لا تقتصر أهمية الشهر الفضيل على الطعام فحسب، وإنما تصل أهمية هذا الشهر الفضيل إلى جوانب تكون الأمّ مركز إشعاعها.
وعندما استفسرنا منها وضّحت: أنّ الأم بالنسبة إلى المكلّفين هي النبع الذي يصدر المعلومة الدينية الصحيحة التي نسعى كفريق نسويّ إلى تطويرها من خلال الأسئلة التي تترتب في فكر المكلّف، وهي ما ماهية الصوم؟ وما شهر رمضان؟ وما الآثار الإيجابية للصوم، والآثار السلبية لعدم الصوم دينياً وأخروياً.
سألناها: ما الأدوات التي اعددتموها لهذه الخطوة الرمضانية؟ أجابت: الأدوات أهمها محاضرات في كيفية التهيئة والاستعداد للأم والطفل إلى جانب العديد من البطاقات التعريفية التي تسهم في نشر هذه الثقافة وخاصة في المناطق النائية التي تحتاج إلى الإرشاد والتوعية.
تبدو زينب وفريقها متفائلات بأنهنّ سينجحنَ في اعتماد هذه الخطة؛ لأنها ستتضمّن إقبال جميع الأفراد على الصيام حالياً وفي المستقبل، وهي شكل آخر من أشكال التثقيف الدينيّ لشباب المستقبل، فشعارنا: (لا نطلب سرعة العمل بل إجادته لأنّ الناس لا يسألونك في كم ساعة أو يوم فرغت منه، بل ينظرون إلى إتقان العمل وجودته).
تدابير إعلامية
مهما حاول أفراد المجتمع أن يحظوا بشهر رمضان عبادي، وأن يتصدوا إلى كلّ ما يعرقل حماية هذا الشهر الفضيل، تبقى عمليات الضبط الإعلامية بيد ذوي الاختصاص، إذ تنصح الإعلامية (سكينة المذبوح، مختصة بالإعلام الإسلامي) ذوي الاختصاص الإعلامي بتحليل المواد الإعلامية التي يتمّ عرضها في هذا الموسم، كنوع من الدراسة التحليلية للبرامج والمسلسلات، وذلك من خلال إحصائيات نسب للمشاهدة تتبناها ورش عمل لوضع حلول ناجعة، وكذلك إعداد برامج توعية تناهض الأفكار التي تصل إلى المشاهد عن طريق المسلسلات والبرامج.
أمّا الشخصيات الإعلامية التي نُجري عليها الدراسات الدقيقة للاستفادة منها كإعلاميين مؤثرين في المتلقي فتكون نتاجاً تفاعلياً للمتلقي، واعتباره مادةً يُستفاد منها في تطوير المتلقي، وخاصة فئة الشباب.
الشريعة الوسطى
بيّنت أستاذة علم الاجتماع (إيمان الحبيشي) إن:
تتميّز الشريعة الإسلامية بكونها شريعةً وَسَطاً، والوسط هنا لا يعني الاعتدال فحسب، بل موقعية الوقوف في منتصف المسافة بين الواقع والمثال، ومنتصف المسافة أيضًا بين الفرد والمجتمع.
فالعلاقة بين الفرد والمجتمع من وجهة نظر الإسلام، هي علاقة تبادلية؛ إذ يُؤثِّر الفرد في مجتمعه ويؤثِّر المجتمع في أفراده، وهما بعدان مهمّان في الإسلام، لذلك فإنَّ لكلِّ تفصيل إسلامي عبادي وأخلاقي وقيمي يقوم به الفرد أثراً في مجتمعه، فضلًا عن وجود عبادات اجتماعية بذاتها كالزكاة وصلاة الجماعة التي تترك أثرها في أفراده.
ومما يجب أن تَعيه القيادات الاجتماعية والدينية؛ حملها على عاتقها استثمار كل أبعاد التوجيهات الإسلامية، وكل المناسبات الدينية، وذلك من أجل تعزيز القيم والمفاهيم التي يسعى الإسلام إلى تثبيتها في نفس الإنسان، ولا تقف عند هذا الحد؛ بل تتجاوزه لتحويل تلك القيم والمفاهيم إلى عمل تطبيقي يحقق أهدافًا إنسانية واجتماعية لا غنى لمجتمع عنها، وهو أمر يتحقق بكثافة وفاعلية في شهر رمضان المبارك.
فعلى سبيل المثال اللباس الشرعي للمرأة مثلاً، هو عبادة تخص المرأة لكن أبعاده الاجتماعية في غاية الأثر، حيث تضع المرأة في موقعها المسؤول كإنسان يُعمِّر الأرض ويتحمل مسؤولية خلافة الله على الأرض.
وفي ظل التطوّرات التكنولوجية أضحت العملية التربوية فكريّاً وأخلاقيّاً من أكثر ما يقلق المؤمن المربِّي والقيادة المسؤولة، ولعلَّ هذه الأجواء التي لا نزال نستشعرها في شهر رمضان المبارك من إقبال على تدارس القرآن، وحضور المساجد والمآتم، وفتح المجالس لإدارة النقاشات والتزاور وصِلة الأرحام هي أفضل سُبل تزكية النفس وتطهيرها وتنقيتها؛ حيث القلوب طيّعة مشتاقة لذكر الله، وحيث لا يحتاج المسؤول والمربي ليبحث عن أماكن ووسائل تُشبع عطش أرواحهم ونهمهم للمعرفة.
والعمل على جعل شهر رمضان وسيلة لتربية جيل عقائدي عالم عامل، ندعم خلاله النقاشات العلمية العقائدية، ونفتح فيه أبواب عمل الخير مع فتح المجال بشكلٍ كاملٍ ليُبدع الجيل الشاب في طرح أفكاره وتساؤلاته وأسلوبه للارتقاء بمجتمعه، وليحمله نحو التكامل المعرفي والاجتماعي والقيمي.
لا يمكن أن تتحول كلّ شهور السنة مثل شهر رمضان، لكن يمكن لهذا الشهر المميّز أن يكون شهراً لزراعة القيم الأخلاقية والمبادئ الروحية وتنميتها؛ كيما نحصد ثمارها في بقية شهور السنة.
حكم متعددة صاغها الشهر الفضيل بأبعاد متباينة فهمها كلّ بطريقته؛ لتنتج نتاجات تهمّ المجتمع وأفراده.
اضافةتعليق
التعليقات