في آية الولاية قال تعالى {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا } كلنا نعلم أن هذه الآية تخص الولاية العلوية لكن التساؤل هنا ما وجه الفرق بين اكمال الدين واتمام النعمة؟ فهناك معنيان المعنى اللغوي والمعنى الجوهري، ففي المعنى اللغوي نجد أن الإتمام والإكمال متقاربان بالمعنى قال الراغب: كمال الشيء لحصول شيء ما لغرض منه، وقال: تمام الشيء انتهاؤه إلى حد ليحتاج إلى شيء خارج عنه، والفرق بين الكلمتين أن الإتمام يطلق حيث يأتي آخر أجزاء الشي المتتابعة بعضها وراء بعض، أما الإكمال فليس الأمر كذلك قال ينطوي الشيء على جزء ناقص، ليقال له غير تام فقد يكون الشيء ناقصا وليس له جزء يتممه ولكنه مع ذلك هو غير كامل حتى الآن مثال ذلك الجنين في بطن أمة فهو يصل إلى حد التمام حيث تتم أجزاؤه ويستوي هيكله ثم يولد ويكون طفلاً تاما، ولكنه لا يكون إنسانا كاملاً إلى أن يتحلى بذلك النضج الذي يجب أن يتحلى به الإنسان الناضج.
إذن إن الإتمام إزالة نقصان الأصل والإكمال إزالة نقصان العوارض بعد تمام الأصل، فالإكمال منصب على نفس الشيء، لرفع نقص أجزائه وأما الإتمام فهو أعم منه لأنه قد ينصب على نفس الشيء أو هدفه وغرضه، والمقصود هو لما كان الاسلام قد تم وبلغ حد الكمال، فإنه هو الدين الإلهي.
وقال السيد محمد حسين الطباطبائي: في تفسير الميزان (ولك أن تحصل على تشخيص معنى تلفظين الإكمال والإتمام عن طريق آثار الأشياء التي لها ضربين: فضرب منها ما يترتب على الشيء عند وجود جميع أجزائه إن كان له أجزاء بحيث لو فقد شيئا من أجزائه أو شرائطه لم يترتب عليه ذلك الأمر، كالصوم فإنه يفسد إذا أخل بالإمساك في بعض النهار، ويسمى كون الشيء على هذا بالتمام قال تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ }، وقال تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ}، وضرب آخر: الأثر الذي يترتب على الشيء من غير توقف على حصول جميع أجزائه بل أثر المجموع كمجموع آثار الأجزاء، فكلما وجد جزء يترتب عليه من الأثر ما يحسبه، ولو وجد الجميع ترتب عليه كل الأثر المطلوب منه قال تعالى: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}، قالوا: ولتكملوا العدة فإن هذا العدد يترتب الأثر على بعضه كما يترتب على كله، ويقال: تم لفلان أمره وكمل عقله، ولا يقال: تم عقله وكمل أمره).
أما المعنى الجوهري فإن إكماله بتنزيل جزئه المكمل لمركبه، وبدونه يبقى الإسلام ناقصا مثلوما، بمثابة غير الموجود وهو يتجسد في قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ } لأن الجزء المكمل للمركب يساوي عدم تبليغ شيء منه! أما قوله تعالى {وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} فهي النعمة بتنزيل الإسلام وشروط تحقيق أغراضه وأهدافه في الأرض، فهو تعالى مَنَّ علينا بإكمال مركب الدين بالإمامة أتم النعمة على المسلمين، وبها ضمن تحقيق هدف الدين في الأرض، إن هم أطاعوا الإمام الذي نصبه لهم.
وبذلك يتضح أن الإمامة جزء لا يتجزأ من الإسلام، وإلا فلا وجود حقيقياً له بدونها، كما أن تبليغ النبي للإمامة تتميم للنعمة الإلهية على هذه الأمة، فالنعمة موجودة بدون تبليغها، لكنها لا تكون تامة إلا بها! وللراغب الأصفهاني لفتة جيدة في معنى الآية، وهي أن إكمال الدين يعني ثبات صيغته النهائية وعدم نزول النسخ عليه الى يوم القيامة قال في مفرداته ص 440 اشارة نحو الدين القيم، ونبه بذلك أنه لا تنسخ الشريعة بعد هذا، وهذه ايضا دلالة على النسخ كان مفتوحا في القرآن والسنة حتى نزلت الإمامة، فانتهى النسخ وكمل الدين بصيغته الخالدة، وتمت به النعمة.
والجدير بالذكر ان آلية تطبيق الدين هي الإمامة ، ولايجوز تجاهلها، فإن الآية، كما نقلت عليها الروايات، نزلت في الإمامة والولاية لعلي ابن ابي طالب (عليه السلام)، ويؤيدها، عدم صالحية شيء آخر عند نزولها لهذا التأكيد، فالآية جعلت الإمامة مكملة للدين ومتممة للنعمة، فما يكون من مكلفات الدين ومتمماته كيف لا يكون من أصول الدين وأساسه؟ هذا مضافا إلى الحديث النبوي المستفيض عند الفريقين، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية)، وهذا الحديث يدل على أن معرفة الإمام إن حصلت ثبت الدين، وإلا فلا دين له إلا دين الجاهلية، و قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): يوم غدير خم أفضل أعياد أمتي، وهو اليوم الذي أمرني الله تعالى ذكره فيه بتنصيب أخي علي بن أبي طالب علّماً لِأُمتي يهتدون به من بعدي، وهو اليوم الذي أكمل الله فيه الدين، وأتم على أمتي فيه النعمة، ورضي لهم الإسلام دينا، ثم قال صلى الله عليه وآله: معاشر الناس، إن عليا مني وأنا من علي، خُلِق من طينتي، وهو إمام الخلق بعدي، يبين لهم ما اختلفوا فيه من سنتي، وهو أمير المؤمنين، وقائد الغر المحجلين، ويعسوب المؤمنين، وخير الوصيين، وزوج سيدة نساء العالمين، وأبو الأئمة المهديين، معاشر الناس، من أحب عليا أحببته، ومن أبغض عليا أبغضته، ومن وصل عليا وصلته، ومن قطع عليا قطعته، ومن جفا عليا جفوته، ومن والى عليا واليته، ومن عادى عليا عاديته، معاشر الناس، أنا مدينة الحكمة وعلي بن أبي طالب بابها، ولن تؤتى المدينة إلا من قبل الباب، وكذب من زعم أنه يحبني ويبغض عليا، معاشر الناس، والذي بعثني بالنبوة واصطفاني على جميع البرية، ما نصبت عليا علما لِأُمتي في الأرض حتى نوه الله باسمه في سماواته، وأوجب ولايته على ملائكته وصلى الله على رسوله محمد وآله الطاهرين وسلم تسليما).
ففي هذه الآية الكريمة وهي آية الولاية قد ربط الله تعالى إتمام نعمته على الخلق بموضوع الولاية، أي كما ان كمال الدين يتحقق بالولاية لمحمد وآله عليهم الصلاة والسلام كذلك فإن بها تمام النعمة على المسلمين، والمقصود بالنعمة ـ في الآية - جميع النعم، ظاهرها وباطنها، اي جميع أنواع العطايا. لذا، فالمراد من إتمام النعمة في القرآن الكريم كل النعم التي يصيبها الإنسان في الدنيا ومن هنا نستطيع معرفة العلاقة المباشرة بين ولاية أمير المؤمنين علي (عليه السلام) والتمتع بالنعم الدنيوية المشروعة، وذلك لمحورية الولاية العلوية باعتبارها أحد الشروط المهمة والرئيسية للوصول بنا إلى مجتمع قائم على أساس الحرية والعدالة والقيم والفضائل الأخلاقية والإنسانية؛ لذا يحتم الواجب أن نسلم عمليا بولاية أمير المؤمنين (عليه السلام) التي أنزلها الله تعالى وفرضها على المسلمين لما لها من أثر تكويني يوجب سبوغ البركات والخيرات، فيتضح إن الغدير هو الوعاء الذي تجتمع فيه جميع تضحيات الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله)، وهو مخزن الأحكام والآداب التي أوحى الله تعالى بها إلى رسوله، والإشارة إلى هذه الحقيقة ومدى توقف البعثة الختامية عليه، فمن هذا نقول أن الغدير روضة الفضائل والأخلاق والمكارم والمحاسن، بل هو المكارم بعينها، والتطور الحضاري والمعنوي كله يدين له بذلك؛ لكونه أهم عامل في حفظ كيان الدين والملة، ويعد إنكاره بمثابة إنكار لجميع القيم الإسلامية السامية.
اضافةتعليق
التعليقات