إنّ عظمة مصيبة الإمام الحسين (عليه السلام) وأهل بيته الطيبين الطاهرين، وما جرى عليهم في واقعة الطف، مصيبة عظيمة لا تُقاس، ورزيتها من أعظم الرزايا في الإسلام. وبينما يتجدّد المصاب بذكرى عاشوراء، تعود تلك الأفواه المرتزقة لتهاجم الشعائر الحسينية، كما هو الحال في كل عام.
لكن أصحاب الشعائر يردّون عليهم بأخلاق عالية، وبما يعكس ثقافتهم الدينية والإنسانية، ويواصلون خدمة الإمام الحسين (عليه السلام) بإخلاص وفكر مستنير، مستلهمين من أخلاق صاحب العزاء، سلام الله عليه.
إن هذه الحملات المشبوهة التي تُشنّ من حسابات إلكترونية مدفوعة، لا نسمع لها صوتاً قبل شهر محرم الحرام. وما إن تقترب أيام العزاء، حتى يظهر “مشاهير الصدفة” بآرائهم التي لم يُطلب منهم أحد أن يطرحوها، والغاية منها لا تتعدّى الترند والتسويق الذاتي.
وفي الوقت الذي تُقام فيه المبادرات الإنسانية وتُقدّم المساعدات والتبرعات للأيتام والعوائل المتعففة على مدار العام، لا نرى لهم مشاركة ولا حضوراً، بل نسمع تساؤلاتهم المستهزئة: “لماذا الطعام؟ لماذا البكاء؟ لماذا العزاء؟”.
وقد وجدتُ دراسة منشورة تُجيب على هذه التساؤلات، تُبيّن أن الرد عليها يفقدنا الهدف الأساس، وهو إحياء الشعائر الحسينية بكل تفاصيلها وميراثها العظيم، وأن الردّ الحقيقي يكون بإقامتها فعلاً، وتجديد العهد مع الحسين (عليه السلام).
لماذا نبكي؟ ولماذا نندب؟
أولاً: لأن معرفة الشيء تُعين على إتقانه والعمل به بصدق
ثانيًا: التأسي بالنبي (صلى الله عليه وآله)، فالبكاء والندبة والتألّم مما جرى على سيد الشهداء في هذا اليوم، هو من سنة الأنبياء.
فنبي الله يعقوب (عليه السلام)، وهو من الأنبياء الكبار، بكى على فراق يوسف {وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ}، رغم علمه بأنّ هناك خديعة ومؤامرة في البين، فكيف بمن شهد بأمّ عينه ما جرى على الحسين؟!
وقد ورد في سُنّة النبي (صلى الله عليه وآله) أنّه خرج يومًا فمرّ على بيت فاطمة (عليها السلام)، فسمع الحسين يبكي، فقال: “ألم تعلمي أن بكاءه يؤذيني؟”.
تلك هي رقة النبي وعاطفته تجاه الحسين، وهو في حضن والدته سيدة نساء العالمين، فكيف به يوم كربلاء؟!
ثالثًا: الجانب الإنساني وأهمية التعبير عن الموقف
في زماننا، تعبر الدول عن احتجاجها بالإضرابات أو التظاهر، وبعضهم يضع لاصقًا على فمه احتجاجًا على مصادرة حرية التعبير. ونحن، من خلال البكاء على الحسين (عليه السلام)، نُسجّل موقفًا إنسانيًا نُعلن فيه مظلومية الإمام.
فهناك تعاطف عالمي مع قضية الحسين (عليه السلام). أحدهم، وهو مفكر مسيحي المذهب وله مؤلفات كثيرة عن أهل البيت (عليهم السلام)، حين سُئل: “لماذا تدافع عنهم؟”، أجاب: “أنا لا أدافع عنهم من منطلق ديني، بل من منطلق المظلومية.”
وكثيرًا ما يُنقل عن غاندي قوله: “تعلمت من الحسين كيف أكون مظلومًا فأنتصر.”
لكننا لا نُعوّل على كلماتهم، فالحسين أعظم وأجلّ، ويكفي أن جده النبي محمد (صلى الله عليه وآله) قال عنهما: “الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة.”
وقد ورد أن الإمام السجاد (عليه السلام) بكى على أبيه الحسين سنوات طويلة.
وعن الإمام الصادق (عليه السلام): “إن البكاء والجزع مكروه للعبد في كل ما جزع، ما خلا البكاء على الحسين بن علي، فإنه فيه مأجور.”
فالجزع على الحسين ليس اعتراضًا على قضاء الله وقدره، بل هو احتجاجٌ على ما فعله أعداء الله، الذين انتهكوا حرمة الرسول (صلى الله عليه وآله) وحقّ الإمام الحسين (عليه السلام).
البكاء هو أبرز مظهر من مظاهر العزاء، وقد حثّت عليه الروايات بوضوح، حتى أصبح من أولويات الشعائر الدينية.
آثار البكاء النفسية:
إن للبكاء آثارًا إيجابية على تنقية روح الإنسان وتكاملها، وهذا أمر لا يُنكر، لكنه ليس السر الوحيد وراء هذا التأكيد من الأئمة (عليهم السلام) على البكاء. فمن يتأمل الروايات يدرك أن هناك أهدافًا أعظم وراء هذا الحثّ المتواصل.
ومن هذه الأهداف:
الثناء على جهاد الإمام (عليه السلام) وتعظيم الشعائر:
فالعزاء على شخص ما، هو نوع من التعظيم والتكريم، لا سيّما إذا كان من أولياء الله، فيكون من أبرز مصاديق تعظيم شعائر الله، والثناء على عقيدتهم وتكريم نهجهم وجهادهم.
وقد قال النبي (صلى الله عليه وآله): “ميّتٌ لا بواكي عليه، لا إعزاز له.
اضافةتعليق
التعليقات