كان الجو لطيفا رغم انتصاف النهار، توارت الشمس خلف سحب الربيع البيضاء وراحت تطل من بين غيمة وأخرى خجلا تغازل وجه الخليقة بأشعة ذهبية ساحرة.
رنَّ هاتفها المحمول قاطعا عليها أجواء عائلية رائعة، ابتعدت عن ضوضاء لعب الأطفال وضحكات الموجودين ليتسنى لها الإجابة في هدوء، دخلت غرفتها وأغلقت الباب، من خلف السماعة جاء صوت الطبيب؛ متأسفا؛ نتيجة التحاليل المخبرية ظهرت موجبة!.
بقيت متسمرة في مكانها لدقائق من وقع المفاجأة ولم تنبس بكلمة، على ما يبدو لم يتفاجأ الطبيب من ردة فعلها، وعدها بسيارة إسعاف تقلها إلى المشفى بعد أقل من نصف ساعة وأغلق الخط..
كيف للنهايات أن تكون بغتة؟
سؤالها ظل عالقا ولم تعثر له على إجابة.
لملمت أفكارها واستعادت ما قال الطبيب مرات عديدة علها تُكذب سمعها أو تجد مخرجاً، مسحت دموعها بأكمام ثوبها ولقنت نفسها مرارا: (لأتحلى بالشجاعة) وأخبر الجميع بأني سأفارقهم لفترة قصيرة وسأكون بخير، وأتصرف كراشدة، لكنها فشلت كالعادة، وسالت دموعها مجددا، وتيقنت أنها ستنهار لو فعلت، جهزت حقيبة ثيابها بدل أن تخبر أحدا، ومع سماعها صافرة الإسعاف وسيارة الشرطة المرافقة لها ظنت أن كل شيء انتهى، خرجت محمرة العينين تحمل حقيبتها.
أعلنت استعدادها للحجر الصحي بعد أن فجرت خبر إصابتها بفايروس الكورونا، ومن دون أن تستدير لترى ردة فعل الجميع، تقدمت نحو سيارة الإسعاف وركبت، فراحت السيارة تلتهم الشوارع على عجل مسرعة نحو احتجازها عن العالم الخارجي تماما.
كانت والدتها تصرخ: أنا السبب.. أنا أقنعتها بالسفر.. هي لم تكن راضية.. هذا آخر ما سمعته، قبل أن تبتعد السيارة كثيرا.
سيارة الإسعاف، ذلك الصندوق المغلق أشبه بتابوت متحرك، المكان الذي بصدد الوصول إليه سيكون قبرا، الصافرة تعلن عن نهاية كل شيء..
هذا ما كان يدور في بالها، وأكثر ما يؤلمها أنها لم تودع أهلها وأحبتها، تصاب بالإحباط كل ما تذكرت مكان الحجر الذي ستسكنه لوحدها، ثم ينهشها القلق لحال عائلتها، قد يكون أحدهم مصابا وقد نقلت إليه العدوى.
بدأت تشعر أن جسدها لم يعد كما هو، وأن المرض تمكن منها حد الضعف، كائن غيرها قد استولى على جسدها وبدأ يطردها خارجه، لا تدري أحقيقة ما تشعر أم هي أعراض الهلع والقلق؟
أم أنها تهيأت؟
في ما سبق لم تشعر بأعراض المرض قط، أجرت التحاليل المخبرية بعد عودتها من السفر، كأي وافد مشكوك في إصابته لإقامته في دولة موبوءة.
رغم السرعة التي كانت تقطعها السيارة شعرت أنها لفت بها جميع محطات حياتها، كشريط جرى أمام عينها؛ طفولتها بكل تفاصيلها، شبابها ومراحل دراستها، مثل ميت مفارق للحياة تأسفت على أشياء كثيرة فاتتها وندمت على أشياء كثيرة فعلتها ثم شعرت بالخجل والخوف أيضا، وتساءلت: بماذا أنا ذاهبة.
وحينما وضعت أقدامها داخل المشفى تيقنت أنها لازالت تكره الأماكن المغلقة والمستشفيات، وودت لو تغمض عينها ولا تستفيق ثانية إلا وهي في بيتها بين أهلها معافاة، لابد أن تمر بهذه المرحلة الصعبة، وتعيش جميع تفاصيلها.
شعور الألم وأعراض المرض والوحدة لا تصفها الكلمات ولا يعرف حقيقتها إلا من مرَّ بها وأحسها وتعايش معها، فالمرض والوحدة وما يترتب عليهما من مأساة، لو تصفها بالحزن ستكون مستخفة بمشاعرها، فهو أبسط من أن تصف به شعورها الآن.
لطالما اعتقدت أن أكثر ما يشقي ويتعب ويجعل المرء تعيسا بائسا هو أن يكون وحيدا، يعمل الانسان ويسعى ويدرس ويجاهد ويتزوج وينجب الأولاد ليملأ بهم فراغه ويملؤوا عليه حياته كي لا يعيش وحيدا ولا يموت وحيدا..
رغم إهتمام الكادر الطبي ومحاولاتهم لإخراجها من حالة الإحباط والقلق والحزن، أدركت تماما أن شعور الخوف من الوحدة لازال يلازمها بعد كل محاولاتها في ملئ الفراغ وبعد أن صنعت لها عالما كبيرا فهو ينبع من أعماق ذات الإنسان حينما يكون محتاجا، أو ينقصه شيء ما، فيحدث أن يكون الإنسان وحيدا وهو بين الناس، ويكون غريبا في أحضان الوطن، ويتألم وهو بين الأهل والأحبة..
استسلمت لتوجيهات الأطباء وتمددت على السرير، سالت دمعات على وسادتها وتعالى الصخب بين حنايا روحها بعتاب حاد، وتأنيب مفرط، رغم السكون والهدوء في أرجاء المشفى إلا أنها تصم أذنيها بقوة ولا من فائدة، كانت الضوضاء داخلها تتعالى، حرارتها مرتفعة، ألم صدرها يجعل التنفس أمرا عسير، أوجاع رأسها تزداد حدة.
أخبرتها الممرضة أيضا أن عيونها محمرة متورمة ونصحتها بعدم البكاء، حقنت قنينة دواء في كيس المغذي تبين لها في ما بعد أنه مهدئ بعد أن رأتها تتخلص منه في علبة، فحصت حرارتها وواعدتها بأن تسهر لرعايتهم..
تفحصت مكان إقامتها الجديد بعد أن غادرتها الممرضة، تراءت لها النافذة على بعد ثلاثة أمتار من السرير، عالم من الخيال البعيد كانت تمثل لها حلم الآتي والأمل المنشود، ثم عادت الأسئلة تغزوها من جديد.
لماذا علينا أن نمرض حتى نشعر بنعمة العافية، ونفارق فنشعر بقيمة أحبائنا؟
هل سأخرج من هنا قريبا؟
هل سأتعافى أم أن النهاية ستكون الموت؟
لم تشعر بالراحة منذ وطأت أقدامها هذا المكان، حرارة جسدها تجعلها تارة تغيب عن الوعي وأخرى تستسلم لبكاء هستيري..
وتذكرت والدتها حين اقنعتها بالسفر لإكمال دراستها في دولة بعيدة، حينها بكت كالأطفال، وعللت سبب بكائها أنها لا تستطيع العيش بعيدا عنها، لكن والدتها اقنعتها بأنها ستزورها كلما استطاعت وأن أختها الكبرى ستكون إلى جانبها..
والحق أنها لم تقتنع لكنها نزلت عند رغبتها كما تفعل في كل مرة والتحقت بشقيقتها لتدرس الطب بعيدا عنهم، فلم يمضِ الكثير من الوقت إلا وقد عادت أدراجها خوفا من المرض والوباء، فكانت سعادتها لا توصف لكن الأمر الذي نغص عليها فرحتها ولم يكن في حساباتها هي أن تكون مصابة.
مر اليوم الأول من حياتها الجديدة ولا زالت خائفة متشنجة، وجاء الليل الذي تجنبت السهر بلياليه المضنية اللئيمة التي طالما زادت من معاناة أصحاب الحوائج والعاشقين..
لم تمرض كثيرا في حياتها سوى مرات قليلة، تسهر والدتها على رعايتها إلى الصباح تمرضها تواسيها تحنو عليها تضمها وتناجي ربها والأئمة الأطهار بأنواع الدعاء وأشكال الرجاء وتتوسل بصاحب الزمان.
ما كانت مدركة ما تفعله أمها، ولماذا هذه المناجاة ما دامت قد زارت الطبيب المختص ووصف العلاج المناسب، لم تكن الإجابة واضحة إلا أنها تذكر كلماتها جيدا عندما سألتها عما تفعل تحت جنح الليل المظلم ألا تشعر بالوحدة؟
أجابت؛ بأنها تناجي قريبا لا يبتعد وغائبا حاضرا.. وإن شعور الوحدة القاتل لا يدخل قلوب الوالهين المرتبطين بإمام زمانهم، تبسمت حينها من عقيدة أمها، فقد كانت تنعتها ببساطة الأمهات، فجأة تحركت شفتاها بالدعاء وتعالى صوتها بالمناجاة للمرة الأولى بانقطاع تام وبدعاء المضطر..
داخلها شعور جميل أبعد الحزن والوحدة عنها، فرأته يجوب ممرات المشفى، يدخل غرفها وتعلو وجهه ابتسامة تخفي الكثير من الألم، رغم الملامح الجميلة التي يغلفها التعب كأب أتعبوه أبنائه بشقاوة جاهلين لا يفقهون الفتن ولا يتعظون من دروس الحياة، أهداها الراحة بعد كل ذاك الألم والخوف من الوحدة، صدقت أمها حين قالت إن شعور الوحدة لا يدخل قلوب الوالهين المرتبطين بإمام زمانهم.
ملأ وجهه المشع قلبها طمأنينة وراحة ما بعدها راحة، مسح الغشاوة عن بصرها وأزاح الغبار عن بصيرتها، زرع حالة الرضا وأسكت الضوضاء بسكينة بعد أن أضعفها المرض وتمكن منها.
هي اليوم خارج المشفى معافاة بعد أن انتهت فترة المرض، ممتنة لمرحلة من حياتها حيث وضعت أقدامها على الطريق الصحيح وجعلتها عاشقة منتظرة، كانت بمثابة صحوة تغلبت فيها على المرض وخرجت من وحدتها معافاة وصار قلبها عامرا بالحب.
اضافةتعليق
التعليقات