في طريقي إلى كربلاء، وفي رحلتي الأولى للمشاركة والتشرّف بمواساة العترة الطاهرة، بالخروج من بيتي إلى كعبة الأحرار سيرًا على الأقدام، ومنذ خروجي وحتى وصولي إلى منطقة تُسمّى (طويريج)، كانت ذاكرتي ترسم وتكتب وتُسجّل أروع اللحظات، وأرقى الذكريات، وأفضل المشاهد.
حيث آمن قلبي، واستشعرت روحي عظمة هذا الطريق.
يحدث في طريق الحسين ما لا يحدث في أيّ طريق آخر:
تآخٍ، ومبادرات جميلة، وخدمة، وضيافة، وترحيب، ومساعدة.
بيوت مشرعة الأبواب تحتضن الزوّار، وأصوات الترحيب والتهليل تصدح من حناجر الآلاف من خدّام الحسين عليه السلام، باختلاف الأعمار والجنسيات.
يكاد بعضهم أن يضع روحه في طبق ويقدّمها لزوّار أبي عبد الله، حيث كسر محبّو آل البيت حدود العطاء فبالغوا فيه، ورغم ذلك يشعرون بالتقصير.
التفتُّ يمينًا وشمالًا، وفي كل التفاتة أرى صورة تُجسّد معنى الوفاء والحب بأعلى دقّة.
وفي تلك الأثناء، اتصلت بي صديقتي هدى، وهي تسألني:
كيف هو طريق السفر نحو الضياء؟
فأجبتها بنبرة امتزج فيها الحزن بالفخر، وقلت:
لا، لا يمكنني وصفه، لا يمكن لأحد أن يصف هذا الإعجاز الإلهي في هذا الطريق.
إنه يشبه السير نحو الجنّة.
انتهى الاتصال بيننا، وأنا أنظر إلى المعزّين، وهم يشكّلون حلقة بشرية، يصنعون ميدانًا مهيبًا.
فيخرج ساعي البريد، ملفوفًا بعباءته السوداء، يُزيل لثامه، ويرتجل بصوته الخشن، ونبرته الجنوبية المخنوقة بغصّة الحزن على سيّد الشهداء، وهو يقول كلماتٍ عاميّةً موزونةً ومقفّاة، تنتهي عادةً بما يُسمّى "الرِّباط"، وهي الكلمات التي يختتم بها أبياته القصيرة، ليقترب من القلب، فيُهيّج أوجاعه.
فتارةً ينقل لنا رسائل من الطف، وتارةً أخرى يحمل رسائل المحبّين، ويرسلها عن طريق حباله الصوتية إلى المُخلَّدين في كربلاء.
فأمّا رسائل العشّاق، فيُردّدها هو بقوله:
ردنّه وياك، يا ابن الطاهرة، نحضَر، ولچلك ما نعزّ الإيد والمِنحر، بحوافر خيلهم ننداس، نتوذر، ونفديك بولدنا، بكلشي بي نكدر، وعيون الضدّك نعميها.
هكذا هم وأكثر، وهذه هي قلوب الأحرار المكويّة بنار عاشوراء، ينقشون على الحجر صُوَر الحزن، ويقلّدون الزمان بقلائد الدموع الجارية، مزعزعين الكون بهتافاتهم، وعهدهم:
أبدًا، واللهِ، يا زهراء، ما ننسى حسيناه.
اضافةتعليق
التعليقات